جميل أن نختلف، بل هو عادة صحية، وضرورة حتمية للتكامل والنمو.

فالشبيه والمماثل والموافق ليس إلا زيادة عددية لا تستلزم زيادة في العُدَة أو العتاد، بل قد تكون مرهقة موهنة،  بخلاف الزيادة النوعية التي تأتي من المخالف فتكون تحصينا و تقوية؛ كما يكون التطعيم تحصينا رغم أنه  في الحقيقة عملية نأتي فيها بالعدو إلينا كي نتعرف عليه بهدف مواجهته ومحاربته والوقاية منه مستقبلا ...

و كما أنه لاخير مطلق في هذه الحياة فلا شر مطلق كذلك؛ فكل مافيها يحتمل الأمرين، وذلك حسب طريقتنا في التعامل معه؛ فالعدو قد يكون خيرا لنا  إذا تعاملنا معه بحذر، لتزيد بمواجهته مهاراتنا وقدراتنا، 

 والصديق قد يكون شرا إذا تعاملنا معه بثقة مطلقة، 

كما أن  أنفسنا التي بين حنيانا قد تكون عدوة لنا عندما لا نحسن إدارتها و تربيتها ...

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم 

...........

الاختلاف أمر ضروري لاستمرار الحياة، فالإنسان يتكاثر بالاختلاف.

فنحن بتكامل اختلافاتنا الجسدية ننجب طفلا، وبتكامل اختلافاتنا العقلية ننتج الأفكار، وبتكامل اختلافاتنا الوجدانية والروحية نبدع الكثير والمثير من جماليات الحي.

نعم الحياة التي تكون بالتشابة والتوافق الكامل رتيبة مملة مميتة للابداع .

ولكن التكامل ضمن اختلافاتنا يتطلب منا مهارات عالية في كيفية الاختلاف، و قدرات فائقة في أساليب التكامل، و تطبيقا راقيا للحكمة التي نكررها مررا (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية) 

ولكن الواقع المشهود أنه يفسد كل شيء، عندما لانختلف بطريقة صحيحة، وعندما لانحسن إدارة خلافاتنا بطريقة تمكنّا من المحافظة على الود بل واستثماره ..

فكيف يمكننا إدارة اختلافاتنا بنجاح، واستثمار خلافاتنا بشكل ايجابي ..

.............

لاتخلو مواقفنا اليومية من عدد من المشادات الكلامية، و المشاحنات الوجدانية، والمماحكات الفكرية، والتي ترجع جميعها لو تأملناها جيدا إلى اختلاف في وجهات النظر، الأمر الذي كان الأجدر به أن يستدعي شغفنا للفهم والنمو، لاحنقنا من التغيير، 

التغيير ذلك الشىء المجهول، الذي نمتلك استعدادا طبيعيا لمقاومته، وتعلقا غريزيا بكل ما عهدنا وخبرنا،  وعداء لكل ما جهلنا أواستجد علينا....

لذلك كله علينا التسليم بداية أن من أهم أسباب عدم تقلبنا للاختلاف هو مقاومتنا  للتغيير، وهذا لا يُعد أمرا صحيّا على إطلاقه،  فليس كل تغيير يعني التحول عن الأصول والأسس والقواعد، 

وليس كل ثبات يؤدي إلى العراقة والأصالة ...

ولكي نفهم ذلك علينا التمييز بين المبادىء والقيم، فالمبادىء ثابتة لايختلف عليها اثنان في كل زمان ومكان، كالصدق والأمانة والعدل والطهارة والجمال، وغيرها من المعاني السامية التي تتفق كل الفطر البشرية السليمة عليها، منذ أبيهم آدم إلى قيام الساعة، فلا أحد ينكرها أو يجادل في وجوب التزامها لخيرية البشرية، 

ولكن الاختلاف يبدأ من تفسيراتنا الخاصة وتوظيفنا لهذه المبادىء، بناء على مصالحنا الشخصية المحدودة،  التي لاننظر فيها لمصلحة البشرية بشكل كلي وشامل ..

 فالقيم هي طريقتنا في استخدام مبدأ الصدق مثلا، فكلما استخدمناه لتحقيق مصالحنا دون الإضرار بالآخرين في كل زمان ومكان، فنحن بذلك نسير في خط موازٍ لمبدأ الصدق، 

أما عندما يصير استخدامنا للصدق  محققا مصالحنا الآنية  فقط، محتملا الضرر مستقبلا، علينا أو على الآخرين ، سواء كان ذلك مقصودا أو غير مقصود 

، فإننا بذلك نكون مغالطين لأنفسنا، متنكبين سبل الضلال، متجاهلين صوت ضمائرنا، متعامين عن نور فطرتنا، 

مما يسبب لنا الألم والصراعات الداخلية، في شكل أسئلة تحار فيها عقولنا، إذ كيف يكون الصدق ضارا ؟ 

لتأتي الإجابة من نور الفطرة الخافت في داخلنا، أن ذلك يكون عندما لانضع الصدق بالقدر والوقت و الحال المناسب، فإنه قد يكون ضارا .

فليس كل صحيح صالح ..

وكذلك الأمر في جميع المبادىء الإنسانية الراقية، التي قد تحملنا على الإضرار بأنفسنا أو بالآخرين عندما نستخدمها بطريقة محدودة وغير واعية أوغير ناضجة،  فإنها بذلك تتحول من كونها مبادىء لتصير قيما خاصة بنا ، نشكلها وفق وعينا و نضجنا، لنقترب بها من المبادىء التي تحمل الخير المطلق، أو لنقصيها عنها، بشكل يقربنا أكثر من الشر المطلق، 

وتأرجحنا بين الأمرين ظاهرة طبيعية لجهادنا مع أنفسنا وتدافعنا مع البشر.

لذا علينا أن نتعلم كيف نختلف بطريقة صحية وبناءة ؟ 

نحن نختلف لأن كلا منا يرى جانبا واحدا مختلفا من عملة نقدية معدنية واحدة، 

فماذا لو حاول أحدنا التحرك من مكانه للوقوف جنبا إلى جنب مع الآخر ، ليكتشف حينها أن تحركه للنظر من زاوية خصمه يضيف لفهمه ورؤيته وموقفه السابق فهما أعمق  ورؤية أشمل وموقفا أكثر اتساعا ورقيا..

فحينها يمكننا أن  نرى بعينين وندرك بعقلين،

وبناء عليه نقرر بوعي ونتصرف بحكمة،  فإذا كانت وجهة النظر المخالفة لنا صحيحة،

فهي بذلك تكمل نقصنا، وإذا اكتشفنا أنها خاطئة، فذلك يجعلنا أكثر ثباتا على مواقفنا وأقل  مجادلة و ممارة، 

بل أكثر شفقة على الآخر، الذي يحمل فهما قاصرا ورؤية محدودة،  

مما قد يدفعنا للتكاتف معه من أجل تسليط الضوء على المناطق المظلمة في الرؤية لديه ...

نحن نحتاج لذلك بشدة، لأن العلم نور والجهل ظلام، والامتناع عن  الخوض في المجهول أوالجديد لا يحمينا من خطره،  بقدر ما يمكّن للخوف والجهل من أنفسنا ليستهلك أمننا الفكري و يقتات على آماننا الوجداني و الروحي  ..

 عندما نعي  أن الخلاف يقع لاختلاف مواقعنا الإدراكية سنكتشف وقتها أننا نختلف لا لأن أحدنا على صواب والآخر على خطأ، ولا لحسن نية أحدنا وسوء نية الآخر، بل لأن لكل منا عين مختلفة وإدراك مختلف و وجدان مختلف ، 

الأمر الذي تتشكل من خلاله زاويته الخاصة في النظر للأمور، وبالتالي الحكم عليها، وهذا أمر صحي جدا وطبيعي،  بل هو ضروري للنمو والتكامل .

إن الخلاف  يبدأ عندما يعتقد كل منا أن طريقته هي الصواب المطلق، وزاويته هي المكان الوحيد للرؤية، وتشتد حدة الخلاف كلما ضاقت دائرة الإدارك لدينا، و زاد تشبثنا بها، و مقاومتنا لمحاولة الفهم، وخوفنا من الاختراق الفكري، هذا الخوف الناتج عن قلة وعينا بأنفسنا، و ضعف اتصالنا  بفطرتنا وقلة تواصلنا مع مخزوننا الإنساني من التأمل، وقلة الثقة في قدراتنا غير المحدودة و إمكانياتنا المفتوحة للمحاولة والتعلم  والاجتهاد، والتي يعترضها الفشل و النجاح بنسب متوازنة أو متفاوتة، لايمكننا تفاديها مطلقا، أوالتقليل من الفشل فيها إلا بزيادة تجاربنا التي قد تكون فاشلة ولكنها ضرورية  إذ نتعلم منها النجاح.  

و كي نقنع أنفسنا بحاجتها الفطرية للتغيير علينا أن نثق بقدرتها على الاعتراف بالخطأ والتعلم منه والبناء عليه، 

ولكننا لن نكتشف أننا على خطأ إلا عندما نتحرك للطرف الآخر ونقترب منه دون خوف من الاختراق، 

فحتى نفهم وجة نظر الآخر علينا التحرك تجاهه، والاقتراب منه والاستماع له، استماعا حقيقيا تعاطفيا، يساعدنا على الرؤية من زاويته، والإدراك من موقعه، والحكم من خلفيته، 

 ونحن إذ نبادر بذلك نكون بين فضيلتين، الأولى أننا نوسع دائرة وعينا، ونعمق أصول ثقتنا بأنفسنا، ونزيد تحصين أماننا الداخلي بالاغتراب الذي يعالج الانضواء الفكري .

والثانية أننا بذلك الموقف الشجاع، وهذا الإقدام الفريد على الدخول في دائرة الفهم الخاصة بالمخالف، والجلوس في موقعه بكل أمانة وشفافية، وكل تجرد من ذاتيتنا، لنتقمص ذوات الآخرين من المخالفين، فإننا بذلك نقدم لهم القدوة والتجربة والخبرة، التي تساعدهم على الجرأة والإقدام بثقة لخوض التجربة معنا دون خوف منا، ودون حاجة لحمل الأسلحة الدفاعية أو الهجومية، ما دمنا في هدنة بدأت من جانبنا بإلقاء كافة الأسلحة و الاكتفاء برفع راية الاستسلام للفهم ، والتي تحمل في خلفيتها عدم التنازل عن الثوابت. 

نحن بذلك التحرك والتقدم النزية و هذه  المبادرة الواعية للفهم نسمح للآخر بالاطمئنان لنا، والتقدم نحونا دون خوف من سطوتنا التي كانت تدفعه بعيدا عنا، كما كان خوفنا من سطوته يبعدنا عنه، 

لنكتشف معا أن هذا الخوف المتبادل ليس له أي مبرر إلا الجهل وضعف الإيمان بقدراتنا و إبداعنا، 

 لنكتشف من خلال هذه التجربة المشتركة مع الآخر أننا أضعنا من أعمارنا وجهودنا قدرا كبيرا كان من الأجدر بنا استثماره للنمو والرقي والسمو والسلام.

فقد تكون المياه الراكدة مستنقعات للأوبئة الكامنة أو بحيرات تخفي تحتها براكين خامدة،

 في حين  تكون الينابيع الفوارة مستشفيات لكثير من الآفات والعلل.

حنان اللحيدان