تجاربنا في مرحلة الطفولة تبقى مشفرة بالكامل في منطقة اللاوعي في الدماغ
وتؤثر وربما تسيطر على الكثير من سلوكنا وطريقة تفكيرنا الراهن بشكل غير مباشر
قال احد علماء الاعصاب "لا يمكن أن نتخيّل القوة الإعجازية للدماغ إلا عندما نفكّر في طبيعة الوظائف الهائلة والمعقّدة التي يقوم بها. أحيانا يشبّه البعض الدماغ بالكمبيوتر، من ناحية تخزين المعلومات ومن ثم استعادتها وإنشاء ارتباطات وعلاقات بين خصائص الأشياء وعناصرها المختلفة بمثل ما يفعل معالج الكمبيوتر"..
يقول المتخصصين في الدماغ, إن الدماغ يكون في حالة نوم، ما لم يُطلب منه انجاز وظيفة ما، كقراءة جريدة أو حلّ مشكلة أو التعرّف على شخص. وهو يمثّل اثنين بالمائة من كتلة الجسم. كما أن الإنسان لا يستغلّ في العادة سوى واحد بالمائة من إمكانيات الدماغ.
وظيفة التذكّر في حدّ ذاتها هي عبارة عن بناء بالغ التعقيد. تخيّل مثلا وجه إنسان قابلته مؤخّرا. الدماغ يستعيد اسم ذلك الشخص وصفاته وملامحه ونبرات صوته من أماكن مختلفة منه "أي من الدماغ"، قبل أن يعيد بناء صورة ذهنية متكاملة عن ذلك الشخص.
الإنسان الذي فقد ذاكرته، مثلا، نتيجة حادث أو مرض يتعيّن عليه أن يتعلّم كلّ الأشياء القديمة من جديد؛ كيف يتكلّم وكيف يأكل وكيف يرتدي ملابسه، وباختصار كلّ الأمور التي كان يقوم بها من قبل. لكن الدماغ، وبطريقة ما تزال تحيّر العلماء، يمكن أن يستعيد دون سابق إنذار بعض الخبرات والتجارب التي اكتسبها الإنسان في طفولته.
قرأت ذات مرّة قصّة غريبة عن أستاذ جامعي أمريكي من أصل ألماني. كان هذا الرجل قد جاء إلى أمريكا في بداية ثلاثينات القرن الماضي وهو في سنّ الثامنة بصحبة والديه وإخوته الثلاثة الذين فرّوا من النازية. في أمريكا بدأت العائلة حياة جديدة وتسنّى للابن، وكذا الحال مع بقيّة إخوته، أن يواصل دراسته في المدارس ثمّ في الجامعات الأمريكية. وتدرّج في مراحل التعليم المختلفة إلى أن حصل على درجة الدكتوراة وأصبح أستاذا للأدب الانجليزي في الجامعة.
وذات يوم، وقبل أسابيع من احتفاله بعيد ميلاده الستّين، أصيب الرجل فجأة بجلطة في الدماغ. وتبيّن للأطباء في ما بعد أن الإصابة التي لحقت بدماغه كانت قويّة جدّا لدرجة أنه فقد ذاكرته تماما. لقد نسي كلّ الأشخاص والأسماء والأماكن والأحداث التي مرّت في حياته. وبعد أشهر من العلاج استعاد قدرته على الكلام. لكنّه نسي الانجليزية تماما وأصبح يتحدّث الألمانية التي كان آخر عهده بها عندما كان طفلا في الثامنة.
الأطبّاء احتاروا في تفسير ما حدث. بعضهم تحدّث عن تغيّرات كيميائية في الدماغ نتج عنها تدمير بعض الخلايا وإحياء بعض الخلايا القديمة ضمن ما يُعرف بالذاكرة طويلة الأمد المسئولة عن تخزين المعلومات والتجارب منذ سنوات الوعي الأولى.
العلماء إلى اليوم لا يفهمون تماما كيف يتذكّر الدماغ، وما الذي يحدث بالضبط أثناء عملية التذكّر، وكيف ينظّم الدماغ الذكريات والتجارب، وأين تُخزّن، وكيف يتمّ استعادتها.
قبل سنوات، نشرت بعض الصحف الروسية قصّة شابّ روسي كان قد تعرّض لحادث سيارة مروّع أصيب على إثره برضوض وكسور متعدّدة كان أخطرها في منطقة الرأس والدماغ. ودخل الشابّ في حالة غيبوبة دامت أشهرا. وبعد أن أفاق خضع لفترة علاج وتأهيل طويلة. ثم غادر المستشفى حاملا معه بعض آثار ذلك الحادث البدنية والنفسية. غير أن أغرب تجربة عاشها بعد الحادث هو انه أصبح لا ينام إطلاقا، أي أن رغبته في النوم ليلا أو نهارا اختفت وأصبح اليوم عنده نهارا متّصلا. وقال الشابّ انه لم يعد يشعر بحاجة إلى النوم وأنه لا يعاني من أيّ إحساس بالتعب والإرهاق نتيجة لذلك، وأن ما يزعجه حقّا هو حالة الملل والاكتئاب التي أصبح يعاني منها جرّاء بقائه متيقّظاً على مدار ساعات اليوم.
ما الذي حدث بالضبط؟
الأطبّاء اختلفوا أيضا في إيجاد تفسير علمي قاطع للقصّة. بعضهم تحدّث عن تأثّر خلايا الدماغ المسئولة عن الإحساس بالزمن. وبعضهم رجّح احتمال تعرّض سيكولوجيا الدماغ إلى تعديل نتيجة تهتّك بعض الخلايا العصبية.
لكنّهم اجمعوا على أن الحادثة توفّر دليلا آخر على قوّة الدماغ وغموض الكيفية التي يعمل بها.