مما لاشك فيه ان تواصلنا مع الاخرين يتم من خلال اللغة, وان اللغة كما في ما يعرف بفرضية سابير-وورف حيث تشرح "ان الحديث المجتمعي ما هو الا انعكاسا للنماذج اللغوية المستخدمة, وان نظرة المجتمع للعالم الخارجي يقرره النظام اللغوي ...وان اللغة بفضل نماذجها الرمزية وطريقة صرفها تقيد منهجية التفكير وقطعية انعكاس ذلك على مجمل سلوكيات الانسان اليومية..ولذلك ومن خلال هذا المبحث البسيط اود القاء نظرة موجزة عن بعض الاراء البحثية والنظريات العلمية للاجابة بايجاز حول كيف تدفعنا ميكانيكية اكتساب اللغة في سن مبكر الى التقوقع حول نماذج لغوية محددة تبصم في الغالب طريقة اسلوبنا في الكلام واثر ذلك على الية عمل الذاكرة خاصة في استرجاع المعلومات ..؟ وهل هناك ما يثبت ان الدماغ قد يتفنن في خداعنا حول معلومات معينة..؟
يؤكد تشومسكي عالم اللغويات الشهير ان الانسان يولد مزود بقوة ذهنية داخلية تعمل على تنظيم استخدام المفردات والتركيبات اللغوية وهي التي تتحكم في جميع اللغات البشرية ولذا فان اللغات بجميع اشكالها وانواعها تتساوى بشكل قطعي في قواعدها , Universal grammar, ويتفق معه روجر براون الذي اثارت دراسته دويا علميا كبيرا في الاوساط العلمية التي تهتم بتعليم اللغة الثانية. فيؤكد براون ان المتعلم يمتلك منظم لغوي خاص يمكنه من استخدام تركيبات لغوية فريدة تميزه عن غيره, حيث يوضح ان لكل شخص طريقة واسلوب معين في الكلا م وان هذه الخاصية تمنع المتعلم من اكتساب مهارات كلامية مضافة, خاصة بعد مرحلة التأسيس أي بعد ان يبدأ في التحدث وفهم مبادىء اللغة الاساسية, حتى بوجود الدعم اللغوي البيئي, بمعنى ان المتعلم للغة الثانية لن يستفيد من البيئة التي يتلقى فيها دعم لغوي اكثر مما لو كان في بيئة يكون تعرضه للغة المراد تعلمها قليل.. وبالتالي فهو يرى ان تردد العبارات والمفردات لن تضيف لقدرت المتعلم الكلامية أي قيمة حقيقية طالما ان نظامه الذهني يعمل بميكنيكية ذاتية ومخرجات لغوية ذات نمط لغوي معين ومتميز والتي لاتتكرر بذات النسق والتركيب حتى لو اراد المتكلم اعادة الكلام بعد فترة قصيرة..ويشرح ذلك بقوله, ان ادوات النكرة مثلا تتكرر كثيرا ويسمعها المتعلم باستمرار من خلال برامج التلفزيون والاخبار وحتى في المحادثات اليومية الا ان المتعلم لا يستفيد من هذا التكرار, فنجده يخطى بشكل ملحوظ في استخدامها وقد تمضي سنوات عديدة من التعلم قبل ان يتقنها بشكل دقيق..
طبعا نحن نلمس ذلك حتى على مستوى التذكر اليومي, فمثلا, نحن نسمع المذيع يقرأ اخبار مقتضبة حول حدث بارز وفي اليوم التالي ربما يطلب منا احد اصدقائنا ان تذكر له ذلك الحدث الذي سمعناه, وقد لاتسعفنا ذاكرتنا بالتذكر لانها في الغالب بحاجة الى مثير كما يشرح ذلك عالم السلوكيات سكنر الذي يرى ان ميكانيكية التواصل اللغوي تقوم على "الية المثير والاستجابة", وهنا انت قد تطلب مساعدة"مثير" وقد يعينك السائل بـ مثلا الاخبار تحدثت عن " التعليم", وهنا يبدأ ذهننا في الاستجابة واستعادة النقاط الاكثر اهمية حول التعليم بمساندة خلفياتنا المعرفية schemata التي قد تعيننا في الاسترسال الكلامي بالا سلوب والصياغة الذي تتميز به قدراتنا اللغوية الفريدة المبرمجة في ادمغتنا وليس بالصياغة والاسلوب اللغوي الذي سمعناه من المصدر "المذيع"..
وهذا ينطبق على عملية الحفظ, فقد لوحظ ان الانسان حينما يحفظ نص معين في اوقات معينة من حياته الدراسية نلحظ انه مع مرور الوقت ينسى كل ذلك النص ولن يتذكر الا العناوين الرئيسية فيه وسيحاول باسلوبه هو التعبير عن ما تسعفه قدراته الذهنية في اعادة صياغته بالتركيبة اللغوية التي يجيدها هو اي باسلوبه.. والسبب ان منظم لغته الداخلي عاود استخدام خاصيته في تركيب الكلمات وتنظيم المفردات التي يعمل بها اساسا وليست تلك المفردات والاساليب الدخيلة, ولذلك فاننا كثيرا ما نلاحظ الكثير حينما لم يعد يذكر النص الاصلي, نسمعه يقول " بما معناه", أي باسلوبي انا..
هذه اشكالية, والاشكالية الاخرى تتعلق بالملامح الوجهية عند الكلام..(تعبيرات الوجه اثناء الكلام), واثر ذلك في التواصل اللغوي ..
كما ذكرنا انفا, عن اهمية اللغة في التواصل الانساني , وكيف ان لكل فرد طريقته واسلوبه في صياغة الكلمات مما ينعكس سلبا او ايجابا على مجمل الانتاج واعادة الانتاج اللغوي الذي بموجبه يحدث الخلل الفهمي عند التواصل..ومع ذلك فان التواصل الغير منطوق او "الملامح الوجهية عند نطق الكلام", والذي يعرف بــ NON VERBAL COMMUNICATIION تعتبر مرتكز اساسي في عملية الفهم الكلي..وفي ذلك الصدد يرى سيلي ان, ان ملامح الوجه تساهم بنسبة 30% في ايصال المعلومة بشكل دقيق وصريح, أي ان الملامح تلعب دورا بارزا في تمكين المستقبل من فهم المعلومة بشكل واضح, وهذا يعني ان المتلقي للمعلومة التي لم يشهد لحظة انتاجها الاولى من مصدرها سيفقد بما نسبته 30% من القيمة الحقيقية للمعلومة الاساسية..
في دراسة اطلعت عليها منذو فترة ليست بالقصيرة, يقول الباحث انه عرض على مجموعة طلاب جامعيين حادثة مصورة بكاميرة الفيدو وطلب منهم بعد اسبوع واحد الحديث عن تلك الحادثة ووصفه كما شاهدوه, يقول الباحث انه رغم قصر المدة الا انني لاحظت تباين واضح وكبير بين الطلاب ولم يتفق اثنان على رواية الحادث كما شوهد.. وبعد ثلاثة اشهر طلب منهم اعادة وصف الحادث وقد اندهش ليس للاختلاف الكبير الذي وصفه البعض لتلك الحادثة بل لانهم اختلقوا صورا ومشاهد لم تعرض عليهم, وتوصل الى ان الذهن قد يلعب مع اللغة دورا كبيرا في تشويه او طمس معالم الكثير من الحقائق..الجدير بالذكر انني كنت من معجبي ومتابعي حديث الشيخ محمد الشعراوي, ولازلت اذكره يقول بما معناه, ان الانسان اذا شاهد حدث معين فانه سينقله كما هو وارجع ذلك الى ان الانسان سيصف الحدث كما هو لانه يستوحي ذلك من حقائق ماثلة امامه, لكنه رحمه الله لم ينتبه الى ان الاشكال في اختلاف النقل او الوصف ليس في الراوي ولا في المتلقي بل في ميكانزم عمل المنظــــــــم اللغوي الذي بينهما..!؟
يتبين لنا مما سبق ذكره كيف ان الذاكرة البشرية للفرد لا تستطيع الاحتفاظ بالمعلومة لفترة طويلة كما ليس بمقدور أي فرد اعادة ما روي له او سمعه بذات المفردات والصياغة اللغوية, وذلك لان لكل فرد منظم لغوي فريد يساعده في انتاج لغة ذات نمط واسلوب يتميز به ولا يمكن ان يلتقط الا القليل جدا من العبارات المسموعة وخاصة تلك المرتبطة بالاقوال الشائعة جدا...وبالتالي فان هذا التميز او التفرد اللغوي الخاص بكل منا في الغالب يؤثر في طبيعة تواصلنا مع الاخرين وقد يوقعنا في خلاف معهم بلا شك.. يحدث هذا في الغالب حينما نروي اشكالية معينة للشخص ما او ننقل له باسلوبنا عبارات تحدث بها اخر عنه, فالاختلاف في النقل او الرواية واردة خاصة وان بعض المفردات او العبارات التي قد ننفلها بعد ان نستبدلها بمفردة من مفرداتنا التي قد تفسر بشكل مغاير لما يضمره المصدر, اضف الى ذلك ان اذهاننا قد تخدعنا وتجعلنا نعتقد بشكل جازم ان تلك المفردة هي التي نطق بها بالتمام والكمال, بينما الحقيقة خلاف ذلك, طبعا يحدث هذا ما التقادم الزمني..
ولذلك فانني ارى ان ميكانيكية اللغة التي تتمتع بها ادمغتنا بفضل منظمها الخاص يضاف لها لغة الاشارة المفقودة في الغالب تعطينا اكثر من مبرر للشك في الكثير مما يروى او ينقل الينا..ولهاذا اود ان نفعل في مناهج تعليمنا فن مهارة المحادثة اليومي , والتركيز على اهمية فهم الدور الذي تلعبه اللغة في حياتنا اليومية وانعكاس ذلك على مجمل سلوكياتنا اليومية وذلك كي يتعلم الطالب او الطالبة مهارة التحليل الموضوعي او النقدي للمعلومات التي تصلهم كي يتمكنوا من فهم الكثير من الاشكالات والخلافات التي قد توقعهم فيها مثل تلك التواصلات اللغوية الغامضة ولكي يكون لديهم الاستعداد للفهم والتواصل مع الاخر المختلف بشكل اكثر ايجابية وانسانية.
سالم م. القحطاني
1426هـ