في زمن قديم، في البيت القديم أيضاً، كنت صغيرة نوعاً ما، وكبيرة نوعاً ما أيضاً، كنت أنا إلا أن "شوفي ما كان شجر". كنا وقت الإجازات نسهر حتى الفجر، ثم نجلس في "الحوش" نفطر. نجلس والعصافير تصف على أسلاك الكهرباء، تنضم نفسها بصف واحد. كانت هواياتي تلك الفترة هي ملاحقة هذه العصافير بنظراتي، والحديث عن كل عصفور!
"هذا شكله أبوهم العصبي اللي ما يتكلم إلا بالعقال ويمين الطلاق!"
"هذه شكلها جارتهم الغثيثة اللي تجي دايم بدون عزيمة!"
"وهذا هذا نوف؟" عبدالمحسن يسأل وكان الأصغر، وأكثر من يهتم لكلامي هذا!
"هذا يا حسون .. الفاهي اللي يعيدون عليه النكتة عشرين مرة ولا يضحك، يحاول يركز معهم بس ماش ما تضبط معه!"
مرت الأيام الكثيرة بسرعة.
كبرنا جميعاً حتى الصغير الذي كان يسأل بحماس.
كبرنا والبيت أصبح يملكه آخرون لا نعرفهم جيداً، و"الحوش" انقطعت أخباره، لا نعلم هل يسهر معه أحد؟ هل يضم السهارى وفطورهم في صدره وقت تسلل الفجر بخفه نحو العالم؟
وأنا أيضاً مرتني الأيام، وأصبحت أكبر، وأطول و نظري أقصر. نظري الآن قصير جداً لا يصل للعصافير ولا يمشي خلفهم. كبرت وأصبحت أرى العصافير كلها كالنقط متشابهة جداً، "الفاهي"، "العصبي" و "الغثيثة" كلهم متشابهون جداً
هواية التخمين والحديث عن الشخصيات التي لا أعرفها كبرت أيضاً، وأصبحت أرضية بعد ما ضمرت أجنحة البصر. قصرت عيني عن العصافير، وأصبحت تطارد الناس في المقاهي، في الباصات، في الشوراع، وفي صالات الإنتظار تعود إلي بملامح كثيرة، نظرات كثيرة، وتعابير وجوه كثيرة أيضاً! أغمض عيني قليلاً ثم أخمن، أو أتخيل لا أدري!
"هذا شكله مغني أوبرا"!
"هذه كان ودها قبل تشتغل مضيفة صدقوني"!
"هذا شكله يشتغل في حفلات أطفال بس ما تضبط معه ويطلع بالأخير مضروب!"
و هذا وهذه وهذاك ... وهذا وهذه وهذاك ...
أحدثني عن أناس لا أعرفهم، وأفكر بهذه الهواية.
لا تبدو هواية سيئة جداً، فلا أظن أني أزعج أحداً!
ولا تبدو هواية جيدة أيضاً، فلا أظن أني أقول شيئاً مفيداً! يبقى أنها شئ قديم يسعدني، ويصعب علي أن أتخلى عنه.
في فترة من الفترات أخذتني العزة بما أكتب! وفكرت بكتابة رواية ((رواية مرة وحدة !!)) :)
بدأت بالشخصيات. الكتابة عن الشخصيات الهواية التي أحب.
نبدأ...
"سلامة" ذاكرته قديمة جداً تكونت مع العلقة! يتذكر كل شيئ! يتذكر جيداً كيف تكون؟ كيف تمدد؟ كيف كان شعوره وغذاءه يتدفق من الحبل السري إلى جسده؟ هو الشخص الوحيد الذي يتذكر لحظة وصوله إلى هذا العالم، ويتذكر أيضاً أنه لم يصرخ بل ضحك!
"أمه" التي كانت تعبر كل شي بسرعة. لا تغلق الأبواب خلفها. لا تحمل حقيبة كتف. تنسج بالصوف شالات كثيرة وتدسها تحت الأسرة وفي الدولايب لا تلفها حول عنق أحد، وحديقتها هي الحديقة الوحيدة في المدينة التي تخلو من الزرع وتمتلئ بالتماثيل!
"السيدة صاحبة البصر الناقص" لعنة أخذت بصرها، ودعوة ناقصة أعادته إليها ناقصاً! فأصبحت لا ترى شيئاً غير الكلام المكتوب في صفحات الكتب!
"ياسمين" الفتاة الرقيقة، ويدها التي لا تحكم القبضة، ولا يفلت منها شئ!
بعد أن خلقت الأشخاص، تحدثت عنهم، وتحدثت عنهم، وتحدثت عنهم. لا حدث فيما اكتب!
الحقيقة أنني لم استطع أن أنسج الأحداث. كنت أنتظر أن تطير الشخصيات، فيلحقها البصر القصير ويتحدث. أو على الأقل أن تسعى في الأرض، وتمشي خلفها عيناي وأخمن!