[مريم هل تنصحينَ بالطِبّ؟]

كان دائمًا ما يُلاحقني صمتُ الجواب عن هذا السؤالِ فأقفُ شاخصةً لا أقوى حِراكًا، فلستُ بصدد أن أُهوّن من شأن السعي فأخدع السائل، ولا حتى لأُعطيهُ كلمةً قارسة تجعل الدنيا في عينه سوادًا، ومن الصعب أن أكون حياديّة وأتحدث بنظرةٍ مُصمتةٍ وأنا المُحبّةُ التي ذُقت وعرِفت، فاغترفتُ ولا زلت!

لكن لعلّي أضعُ عنكِ بعض النقاط على الأسطر ، وأقول: إن كنتِ ..

  • صبورة أو تتصبّرين من أجل أهدافك حتى تَجلِّيها.
  • مستعدة أن تهبي جُلَّ وقتك وجهدك ونفسك للعلم دون كلالة.

  • قادرة على التضحية -جُزئيًا- بحياتك الاجتماعية <لا تصدقوا فكرة الانعزال الكُلي ومحاولات تهويل البعض لها، فالمقصد هو أنكِ لن تملكي الساعات الطِوال للزيارات والترفُّه، والتواصل عبر الشبكة لأن مذاكرتك أولى بها -وهذا بالطبع في حدود الفصل الدراسي غالبًا-.

  • لاتُمانعين بقضاء الإجازات في المراجعة وتثبيت المناهج المشروحة <دراسة الطبّ تراكميّة، فتلك المعلومة التي شُرحت لكِ قبل سنة وتجاهلتها تعودُ بفروعها بعد سنتين أو بتطبيقاتها المبنيّة عليها مستقبلًا لتجلدك:/؛فتكونين في حاجة مستمرة للمعاهدة (وأخبركِ سِرًّا؟ قد يتبيّن لكِ أن الوضع مأساوي لكن صدقًا هي حاجة تنشأ في نفس الطالب مع الوقت، فيكون هو مُتعطشٌ لها، بل وينتظر الإجازة تِل والأُخرى من أجل ذلك) فلا أنَفس من العلم، ولا أثمن من لحظةِ إدراكٍ للمسائل، وقدرةٍ في إسقاطها على الواقع!
  • تستطيعين هجر مواهبك قليلًا خاصّة في سنوات الدراسة الأخيرة.
  • ذات حُبٍّ للمعرفة والبحث عن المعلومة بين الشروح والكُتب، ودوامِ متابعة جديدها.  
  • تملكين شغف تجاه المجال وتتوسمين في نفسك نفعًا لهذه الأُمّة، لا أن تكوني رقمًا زائدًا.
  • تحترمين العمل الجماعي، وتمنحين الفريق ثقةً وتكاملًا فيما بينكم.
  • تحظين بقدرٍ كافٍ من المسؤولية، وما أعظم شأنها يومَ الحساب!
  • تتمتعين بإيثارٍ تبتعدينَ به من حدود العنصرية   وضيق التمييز والتحيُّز إلى أُفق الإنسانية! مهمتك الأولى فيها حفظ الروح على حساب راحتك، أذكر في لقائنا التعريفي الأول كلمةَ عميدِ الكليّة يقولُ فيها:

«نحنُ بِدءًا من اليوم وحتى خمسة أعوامٍ في مرحلة تحويل طالب الثانوي إلى طبيبٍ يُداوي مرضى لا يعرفهم في حال أن أمه مريضةٌ بالبيت!»


فأنتِ -بإذن الله- أهلٌ للطِبّ💗


طبيعة سنوات البكالوريوس:

١- سنة تحضيرية صحيّة/تأسيسية طبيّة (بعض الجامعات يكون التخصص فيها مباشرة).

٢-سنتين أو ثلاثة طبّ أكاديمي:                 

وهي مرحلة إرساء القواعد لبناءِ الطبيبِ الشاهق، يُدرس فيها طبيعة تكوين الإنسان جينًا وجنينًا، وما يحوي جسمه من خلايا وأنسجة صعودًا إلى تشريحه ووظائف أعضائه، وكيمياء التفاعلات داخله، تزامنًا مع المخلوقات الحيّة الدقيقة والطفيلية التي قد تُصيبه بداء، ويُبنى عليهِ دراسة التغيّر الناتج عن اعتلالٍ في الأصل ودواؤهُ كيفَ يكون؟

٣- ثلاث سنوات أو أربع سريرية(إكلينيكية):    وهي مرحلة تكميلية لما سبق، حيث يُوجّه الطالب فيها بتوظيف معارفه السابقة في دراسة التخصصات الطبيّة كافة كـ(الباطنة، الأطفال، الجراحة، الجلدية، النساء والولادة ..إلخ)، وطُرق ربط المعلومات للوصول إلى تشخيص دقيق، والتعوّد على التعامل مع المرضى داخل المشفى والتطبيقات العمليّة على ذلك، حيثُ يخرج منها الطالب مُدرّبًا على قواعد العمل كطبيب، ومُسلّحًا بالمعرفة والتجارِب.

٤-سنة أو اثنتين امتياز:

وهي مرحلة الممارسة الفعليّة داخل المشفى، والتي يُوضع فيها الطالب تحت ظروف بيئة العمل ليتكيّف ويتفاعل مع الحالات الطارئة، ويكسب خبرات متعددة من الطاقم الطبي.


والمُحصّلة سبعُ سنواتٍ تامّة، تتخرّج بعدها طبيبتنا الحاذقة لتُكمل مشوارها في التخصص في المجال الذي أحبّته؛ لترفعَ شأن الأمّةِ، وتُبصِّرنا بفجرٍ قريب.

الإيجابيات:-

وهي تتفاوت بحسب همّة كل طالب:
  • التأمُل في عظيم صنع الله، ودراسة أدق تفاصيل الخلق لأكبرها، بصورةٍ تؤصِّل الإيمان وتشُدُّ به القلب خضوعًا لهذا الربِّ الذي أتقن كل شيء!

  • تُعرَض لكِ صور من إحكام الشريعة في التكاليف، وإحسان الشارع فيها بدِقّة مُتناهية تُلائم الخِلْقة، وغالبًا ما تقفين على معلومات تُذكرك بقواعد فقهية فتعقدين الكفّ تصديقًا لا يُخالطه شك بـ﴿إِنَّهُ خَبيرٌ بِما تَفعَلونَ﴾.

  • تُشبع الفضول تجاه أمور كثيرة نواجهها في حياتنا وتُصيبنا وقد نسمع عنها، ونقرأ ولا نعلم وجه الصِلة وربما نستنكرها مرارًا، وهذا يبدأ مع الطالب منذ الشهر الأول ولا أخفيكم أنه شعور فريد جدًّا شبّهتهُ: بإيقاد ِمصباحٍ في الدماغ تتطايُر الفراشات من حوله!

مثل: فقدان اليود من الأكل وعلاقته بتضخم الغدة الدرقية، وهذه نشوةُ العلم!

 

  • سيختلف عليكِ وقعُ آيات القرآن التي تتحدث عن الإنسان كُليًّا.

  • شعور مهيب ينتابُك من المسؤولية لكنه يدفُعك دائمًا لبذل قُصارى جُهدك.

  • بالنسبة لي أُحب خفض جناحي للناس كبيرهم وصغيرهم، ومخالطة جميع الفئات، واستقطاب الخبرات، وأجد في الطبّ بُغيتي والمكان الذي يُشبهني تمامًا.

  • يكفل لك من التحديات ما يجعلك قويّة، يحثّك على المواصلة فكل معلومة تُنادي أختها، يعلّمك أن تكوني لمّاحة تسيرين بين الناس فتلحظين عللهم الظاهريّة حتى من طرق كلامهم أحيانًا.

  • يحُضُّكِ على إكثار شكر نعمة العافية، واستحقار ما فيك من ألم، فما إنْ يُصيبك داء إلا وتعقدينَ مع نفسك حلقة مقارنات بما هو أعظم؛ فتلهجين للهِ حمدًا وشُكرًا.

  • رَغم الجديّة التي تطغى على منسوبي الكليّة إلا أن الجو العام أخّاذ، والكادر التعليمي أغلبه مُتعاون، ويُعطي بهدف بناء العقل قبل كل شيء، مُستشعر في ذلك أنه يتعامل مع طبيبٍ سيكونُ زميله يومًا ما، وما أبهى شعور التواضع الذي يطغى عليها حتى تجعل الطبيب كبير السِنّ، طويل باع العلم، الذي تقلّد من الشهاداتِ وارتقى من المناصب وفيرًا، يُنادي الطالب ذو اليوم الأول بـ: دكتور فلان، ابني الدكتور، تفضل يا دكتور ...، فيساوي نفسه بهِ في النداء!

فاصل طريف:

هذا اللقب بالذات أجد عند أعضاء التدريس حرصًا على عدم إسقاطه بأي شكل حتى لو كان على سبيل الغضب!

فمثلًا تصرخ المُحاضِرة في القاعة بـ: الصوت يا دكاترة لو سمحتم، الدكتورة الي في الزاوية وبعدين؟، الدكتورتين الي ورى تفضلوا اطلعوا برى، تكلّم بأسلوب مهذب يا دكتور ...فلا تعلمين أهذهِ مكانة أم إهانة:)

ولا أنسى إحدى المُعيدات -سامحها الله- التي صدّعت رؤوسنا طيلة المُحاضرة؛ إذ تفصل بين كل جملة وجملة بكلمة "يا دكتورات" حتى قلنا: ليتها سكتت.

  • يجعلك أكثر اهتمامًا بصحتك وصحة من حولك، إذ يقل وقوعك في فخ الشائعات الخاطئة، ويزيد وعيك بطرق البحث من المصادر الصحيحة، وللأسف تقِلّ ثقتك قليلًا بالأطباء إن احتجت للفحص <إذ تعقد تقييمًا داخليًا حول مدى كون هذا الطبيب يسري على تعاليم المنهج المدروس أم لا.

  • إن كان أحب الأعمال إلى الله المشي في حاجة مسلم وتفريج كربته، فكيفَ بتخفيف الألم، ورتق الجرح، وجبر الكسر، وإرقاءِ الدمع، وإنقاذ روح؟ 

أفلا يستحق كل هذا السعي؟


السلبيات:-

-لن أُصنّفها كعيوب-:
  • اللغة في بداية الدراسة لكنها تلين مع الوقت وتسهُل.

  • فترات الملل التي تُصيب الطالب من المذاكرة فلا يستطيع دفعها إلا بمزيد من المُذاكرة ولا مفرّ:"

  • يختلف نظام كل جامعة لكن يغلُب كثافة المنهج وقُصر الوقت، ما يجعل الطالب في ماراثون طيلة العام.

  • قلّة أوقات الترويح عن النفس، حيث يكادُ يتفطّر كبد الطالب المسكين على حاله بينما أقرانه يمرحون ويسرحون، لكنه يذرُ ذلك إلى ما يُرجّى طِيب ثمرته غدًا -بإذن الله-.
  • يستنزف الكثير من المشاعر وأظن في وقت العمل يكونُ ضِعفًا.
  • يزداد منسوب الوسوسة لديك كلما أتتك أعراض لأنك تربطها عادةً بما تدرُس، وينتابك الهلع حين يتم تشخيصك بمرض تعرف كل تفاصيله، ولا مجال أن يُخادعك أحد ليهوّن عليك!
  • صور الأمراض والأعراض غير لطيفة، لكنها تُعتاد بكثرة المِساس، فتنقلب نظرة الاشمئزاز إلى حُب تطلُّع للمزيد، فلا تسخر أيها القارئ من طالب طِبّ يصرخ بـ: ياااه! لأنه وجد صورة نقيّة لتليّف الكبد مثلًا، هو مُحِقٌّ صدقني:(
  • أسطورة طول سنوات الدراسة، وهذه تحديدًا لا أؤيدها البتّة، فسنوات الطبّ لا تتجاوز الستة، وما بقي فلممارسة المهنة باختلاف الفكرة، قد يكون العائق الوحيد هو أن يلزمك دراسة بعد التخرج حتى تحصل على تخصص مستقل وإلا ستبقى طبيبًا عامًا بلا مجال.
  • شعور عدم الرضا والثقة بالنفس أكاد أظنّه أكبر تحدي أمام طلاب الطبّ، حينما يراجع المعلومة ويسهر ويقتطع من وقته ثم ينساها للمرة التاسعة والتسعون بعد المئة:) وربما يطوله من توبيخ أساتذته ما يساوي كرامته بالأرض، ويُشعره بعدم جدارته لهذا المكان! <يتعمّدون القسوة في هذا الجانب زعمًا بأنهم سيجعلونك أكثر حرصًا- لكن لا بأس تقوى المناعة، ويُعتاد التهزيء:/
  • اختباراتها كثيرة حتى بعد التخرج، حيثُ تُختبر مناهج سنوات الدراسة كلها لكي تحصل على رخصة مزاولة المهنة، وحقيقة لا أشعر أن الأمر مبالغ فيه لأنك في نهاية المطاف تتعامل مع نفوس بشريّة لا تحتمل الخطأ؛ فلزِم أن يمرّ الطالب من بين غِربال حتى يتخرّج بلا شوائب قدر المُستطاع!


الطب والاختلاط:-

-ما حكم الدراسة الطبية؟

-هل المجتمع الطبي مليء بالفتن؟

-هل يُنصح أصحاب الاستقامة بعدم الولوج حتى وإن كانوا ذوي مهارة؟

-هل يُخشى على الاستقامة داخل المهن الصحية؟

-هل نمنع ابنتنا الالتحاق بالطبّ خوفًا عليها؟! 

هل وهل وهل


ما أسرع أن يطرأ للمرء أمثال هذه التساؤلات كل مرةٍ يسمعُ بفتاةٍ مستقيمة تنضم إلى ركب العلوم الصحية، ويتملكه الخوف قرينًا لفكرةٍ رُبما ضربت بنياطها هلعًا قلوب الصالحات، وأرّقت سير أحلامهن، واهتزت بسببها أقدامهن وإقدامهن على هذه الخطوة رَغم جدارتهن لمقاعد الطبّ، فجنحوا لغيرها فرارًا بدينهن!


أولًا وآخرًا وأبدًا:

-دعنا نعرضُ الأمر على المنظور الشرعي-

———————————————————

-حكم تعلُّم الطبّ: فرض كفاية، إن قام بهِ البعض سقط الإثمُ عن الباقيين، وإلا إن تركوه أثِموا جميعًا.

يقول الحق سبحانه:

﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾[المائدة:٣٢].

وعلّة ذلك: أن من أجلّ مقاصد الشريعة حفظ النفس وصيانتها عن كل ما يُوقعها في الهَلَكة، ويمنعها من أداء العبادة على الوجه الأكمل، ومن ذلك الركون إلى المرض، فجُعل التداوي واجبًا!

يقول أسامة بن شُريك -رضي الله عنه-:

"شَهدتُ الأعرابَ يسألونَ النبيَّﷺ .. فقالوا يا رسولَ اللهِ هل علينا جناحٌ أن لا نتداوى؟ قالَ: تداوَوا عبادَ اللهِ فإنَّ اللهَ سبحانَهُ لم يضع داءً إلَّا وضعَ معَهُ شفاءً إلَّا الْهرمَ"

-حكم الاختلاط: مُحرم

-حكم الكلام مع الجنس الآخر لحاجة: مُباح شرطَ ألّا يكونَ ذريعة للوقوع في الحرام من نظرٍ، وخلوة وغيرها ..

لكن من رحمة الله بهذه الأمة رَفعُ الحرج والمشقة عنها، فيقول تعالى: 

﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[الحج:٧٨].


ولهذا ذكر أهل العلم:

أن ما حُرمَ سدًا للذريعة؛ فإن الحاجة الشرعية المعتبرة تُبيحه رفعًا للحرج عن الأمة؛ لأنه إن فُرض الكف عن ذلك: أدى إلى التضييق، والحرج، أو تكليف ما لا يُطاق.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

والأصل أن كل ما كان سببًا للفتنة: فإنه لا يجوز، فإن الذريعة إلى الفساد يجب سدها؛ إذا لم يعارضها مصلحة راجحة.


وقال الشيخ ابن عثيمين:

وما كان تحريمه تحريم وسيلة فإنه يجوز عند الحاجة.


وخلاصة ذلك، ما عبّر عنه أهل العلم بـ:

«ما أُبيح للحاجة قُدّر بقدر الحاجة».


وهذا يعني: 

١/أنَّ كون الخُلطة اضطرارًا لا يفتح الباب على مصراعيه، وجوازه هنا لا يعني التساهل والترخُّص والتبسُّط مع الرجال، فعلى الفتاة أن تتجنب المخالطة قدر الاستطاعة، وتحذر الخلوة، ولا تحادثهم إلّا إن دعت الحاجة المُلحة لذلك، وإن حدث فلتوجز العبارة، ولتتحدث بالمعروف دون إمالة للصوت عن طبيعته أو تغنج أو ضحك أو كل ما شأنه أن يكون داخلًا في الخضوع بالقول، لقوله تعالى:

﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾[الأحزاب:٣٢]


٢/أن تلتزم المرأة بحجابها الشرعي وتحرص على الستر في كافة شؤونها، وليس هذا مُقتصرًا على الدراسة الطبيّة لكن حريٌّ بها أن تكون أكثر حرصًا حين تكون في مجتمع ذا خُلطة، رضًا لربها، وصيانةً لنفسها، وحفظًا لأنظار الرجال وشفقةً بهم أن تكون لهم فتنة، كما كُنَّ نساءُ الصحابةِ الأطهار-رضوان الله عليهن- يُسألن من وراء حجاب، ويخرجن المغازي مع رسول الله وصحابته لمداواة جرحى المسلمين فلم ينهاهنﷺ عن ذلك!

 

•لعل يصل أحدكم إلى هنا فيتأكد له أن الأمر شائك، ولا طائلَ من أن يفتح المرء عليه باب مُغالبة ما دام بهذا القدر من الحذر، وهنا أنقلكِ معي لنقطةٍ بالغة الأهمية..


ما حكم المداواة بين الجنسيين؟

الأصل عدم الجواز إلا إن دعت لذلك حاجة مُلحّة، وأن يكون النظر واللمس والكشف مُقدّر بقدر هذه الحاجة، وزوالهُ بزوالها، وأن يأمن المُداوي على نفسه الفتنة بغض بصره ما استطاع، وأن يوجد محرم حتى تنتفي الخُلوة.


وتأتي هذه الحاجة بالترتيب التالي:

١-أن تكون طبيبة مُسلمة، فإن لم توجد.

٢-أن تكون طبيبة غير مُسلمة ثقة، فإن لم توجد.

٣-أن يكون طبيبًا مُسلمًا، فإن لم يوجد.

٤-أن يكون طبيبًا غير مسلم ثقة.


وتُقدّر كذلك بحسب المهارة؛ فإن وُجدت طبيبة لا تُحسِن المُداواة أو غير مُتمكنة، جازَ للطبيب أن يقومَ مقامها.


ولعل ما يُلتفت إليهِ هنا:

تقديم المسلمة على غيرها، وهي إننا بحاجة لكفاءات طبيّة نسائية تخدم المجال، وفي ذات الوقت يردعها دين؛ فتحفظ الأمانات، وتستُر العورات، وتُصبّر بالله، وتستعين به، وتدعو إليهِ بأخلاقها، لأن «القَسَم الصحي» لم يكن يومًا رادعًا لضميرٍ لا يخاف الله!

بل لربما اطمأنت إحدانا لطبيبٍ يظهرُ عليهِ أمارات الصلاح حتى وإن لم يكُن ذا مهارة؛ فكيفَ الحالُ إن كانت طبيبة؟

———————————————————

عجبي لا ينقضي من قومٍ يكرهون دخول الفتيات كليّة الطِبّ، في حين لا يرضون أن تُمرِّض نساءهم إلّا طبيبة-وقد أصابوا-، فإن آثر كُلٌ منّا نفسه، فمن أين لنا بهن؟


تنهالُ عليك آلاف الدعوات بالثبات والوصايا بقبض جمر الدين بمجرد معرفة أنك تنتمي لهذا التخصص!

وكأنك تدخل مكانًا -بنظرهم-عاجًّا بالفتنة، لا بُدّ فيه أن يُلطَّخ ثوبك الأبيض.


أخبروا هؤلاء ألّا يرموا كلامًا عن تخصصٍ لا يعرفون ما يدور خلف أسواره، أخبروهم عن حياة طلاب الطبّ، عن انعزالهم اجتماعيًّا، عن كفاحهم، عن وصلهم الصباحاتِ بالليالي ليدرسوا، عن وقتهم الذي صار رهن العلم بينما أبناءُ جِلدتهم يلهون.


ومَن منّا في هذا الزمانِ يكاد يسلَمُ من الخُلطة؟ 

في الأسواقِ خُلطة، وفي الطرقات خُلطة، وجُلُّ المهن -إلّا من رحم ربي- لم تعُد تخلوا من الخُلطة!

فهل الحلّ أن نُغادر المرتع أم نُصلح القلوب؟


ربّوا بناتكم على الحياء والعِفّة والستر، أحيوا فيهم تقوى الله ومخافته في السرّ والعلن، علّموهم أن الدين لا يتجزأ في مكانٍ دون آخر، أشعلوا فتيل الإيمان في قلوبهم ليخشوا ربهم لا النّاس!


واعلموا أن الفرد بدينه وتنشئتِه لا بالتخصص الذي ينتسِبُ إليه، فالواقع المُشاهد أن في كل كليّةٍ الصالح والطالح ولا مُفاضلة إلّا بالميول.


العقيدةُ نهجٌ قبل أن تكون تخصص، وفرضٌ على كل مسلمٍ أن يتفقّه في دينه، فكرة أن تقع المسؤولية كاملة على عاتق أصحاب التخصصات الشرعيّة فِكرٌ باطل! كلنا لابُّد أن نعرِف الأصول وللفروعِ أهلُها.


وتأمّل إن شئت في حال مستشفياتنا اليوم يكادُ يطغى عليها الرجال، وقلّ فيهم من يبرزُ من النساء، ويا للأسف أن يكون هذا النقص حتى في التخصصات النسائية!

 فباللهِ عليكن إن تخاذلنا نحن فمن يرفع عنّا وإخوتنا النساء هذا الحرج؟

إذا أنا وأنتِ لم نُزاحم صفوف الطبّ لنسدّ هذه الثغور، فلمن نذرها؟


نحنُ اليوم بحاجة ماسّة للطبيبة المُخلصة الحاذقة التي تخاف الله في مرضاها، وتحفظ أسرارهم، وتستر عوراتهم، كحاجتنا للمعلمة المُربّية، والفقيهة العالمة، والنحويّة المُدققة، والموظفة المحترمة ..إلخ


فأنا أحضّ كل فتاة ذات علم ودين وقدرة على الولوج إلى هذا المجال-بعد الاستخارةِ- ألا تتردد؛ فالأمة بحاجة لأمثالكن.

كما أدعوا كل ذوي رُشد:

ألا يكسر من مطامح ساعٍ في هذا الطريق، بل يمُدُّ له يد العون، ويعضُدُه بالتثبيت، ويشُدّ أزره فلا يدري ربما يكون شفاءهُ -بعد إذن الله- يومًا بين يديه!


ولحبيباتي الطبيبات زميلات المهنة:

اثبتوا فأنتم على ثغرٍ عظيم، وسَلوا الله المعونة، وأخلصوا أعمالكم وجددوا نواياكم، وليكن همّكم العلم وأداءُ الأمانة لا الألقابُ والمكانة، واسعوا -ما قدّركم الله- لأجل هذه الأرواح التي تنتظر منكم الكثير، لا تتوقفوا فتخذلوهم، ولا نؤتى من قِبَلِكم♥️



لم تنتهي الحكاية 

         ثمّة خبايا خلف أسوار الطِب

                 أتركُ لكم تخيّلها أو خوضها!

مريم أحمد طعيمة

الثلاثاء: ٢٣/ذو القعدة/٤١هـ