Image title

جميعنا حين نذنب، ونبتعد عن الله أو نشتاق له أو نتحدث عنه سبحانه، فإننا في الغالب نستذكر مواقف وأحداث جرت لنا من قبل ولمسنا فيها لطف الله، كخبرٍ سرّنا أو مرضٍ عافانا منه، أو حزنٍ جاوزناه بفضله، وهذا من حسن الإيمان بل هو من ركائز الإيمان، لكن في الحقيقة هناك مواقف وأحداث أقدم من تلك التي نذكرها بكثير، قديمًا حيث كنتَ نطفةً صغيرة جدًا، ضعيفة جدًا، فجعل لضعفك قرارًا مكينًا يحميك بإذنه، ثم هأنت تكبر رويدًا رويدًا، تلك النطفة الضعيفة باتت علقةً ثم مضغةً، ثم يؤذن لهذي المضغة الصغيرة أن تدُب فيها الحياة، لتبدأ منذ تلك اللحظة رحلة روحك في هذه الدنيا، فيدبر الله لك رزقك، وحفظك، يدبر لك تلك الأنفاس التي لولاها لما استطعت أن تعيش طرفة عين، بالله قل لي من الذي تكفل بك وأمّنك وسط الدم في ذاك الجسد المعقد؟ من الذي مدّ بينك وبين الحياة حبلًا وأبقى فيك أثره حتى لا تنسى كيف كنت ومن أنت وإلى أين أنت ماضٍ، من الذي علمك أن تبكي وتحرك تلك الأطراف في لحظةٍ ما عرفتَ الدنيا قبلها، ثم علمك كيف تلقم ثديي أمكَ وأنت الذي لم تزم فمك لطعامٍ قطّ، كم مرةً تعثرت وسقطت وأنت تخطو خطواتك الأولى فحماكَ ولم يمسسك سوء ؟ وكم وزّع في صدور الناس من رحمةٍ لأجل أن يستلذوا رعايتك ويتسارعون في تقبيلك وتلبية حاجاتك، فلم يمنحهم الرضا بك كواجبٍ ومسؤولية بل جعل قدومك نعمةً يفرح بها الشيخ والولد، وتُقام لأجلها الولائم وتُذبح الأنعام لله شكرًا وحمدًا، أتذكرُ حين كنتَ ترفع كفيكَ الصغيرتين راجيًا الله بصوتك الناعم، أن يوافق والدك على شراء تلك اللعبة التي تريدها، وألا توبخك أمك على ذاك الصحن الذي كسرته، وأن لا يغيب زميلك في الروضة غدًا؟ تلك الدعوات التي قد تكون من أصدق ما دعوت في حياتك كلها، وكان سبحانه يستجيب لك ويجبر ويسعد ذاك الفؤاد الغض الطري الذي بداخلك، وما كل الذي ذكرته إلا جزءً بسيطًا مما كان في حياة كل واحدٍ منا، لعلنا لا ننسى أن الذي تولانا مُذ كنا عدمًا وحتى هذه اللحظة بكامل تفاصيل نفوسنا البشرية المعقدة، لعلنا لا ننسى أن نلجأ إليه، علاقتك مع الله أجمل العلاقات وأبقاها وأعظمها، أسرارك وخبايا نفسك، دموعك الوحيدة وضحكاتك الصاخبة، همومك التي تستصعب شرحها، وأمنياتك التي تتمناها، كل ذلك يعلمه من خلقك وتولى أمرك وأوكله إليه، لن يجبر خاطرك المنكسر أحدٌ سوى من جبره مُذ كنت وليدًا، فلمَ قد تنسى تلك العلاقة العظيمة التي ستنجيك وتلهو بما لا يرضاه لك الذي هو أعلم بك، أتخون الله بنعمه التي وهبها لك؟ إن تفعل فالله غنيٌ عنك وقادرٌ عليك وسائلك عن عملك يوم لا يبقى لك إلاه، ولكنك حين تختار لنفسك السير في درب الطاعة والحب والإجلال ستغدو الحياة في عينيك نورًا، وكما أخبر الله عن نفسه في الحديث القدسي ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) بالله عليك أمَا آن الأوان لأن تخطو نحو شبر النور ذاك؟