قال الله تعالى﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
والمسلمون يؤثرون.
وأذكر أن الإمام ورش رحمه الله تعالى لما رحل من مصر إلى المدينة للقراءة على الإمام نافع المدني، وكان إمام قراء أهل المدينة في عصره، وجد زحاماً شديداً، ولما أن طلب من إمامه مراعاة غربته وتشفع لذلك الشفعاء المخلصون من طلبة العلم حول الإمام نافع رحمهم الله أجمعين للإمام ، وكان أن نافعا رحمه الله تعالى لم يجد ما يسنح له من الوقت إلا قبيل الفجر ليجلس ورش بين يديه طالب علم قطع الفيافي والقفار كيما يتلقى علم قراءة كتاب الله تعالى القرآن العظيم!
ليأتي جانب الإيثار ههنا بارزا يوم أن قدمه أحد طلاب العلم على نفسه ويشحذ همم غيره من إخوانه السعداء بإيثارهم أخاهم على ذوات أنفسهم!
قال الإمام شمس الدين الذهبي (وقال الداني: أخبرنا علي بن الحسن وعلي بن إبراهيم وأبو محمد الإمام قالوا: حدثنا محمد بن علي هو الأذفوي. حدثني محمد بن سعيد، عن أبي جعفر، أحمد بن هلال، حدثني محمد بن سلمة العثماني قال: قلت لأبي: أكان بينك وبين ورش مودة؟
قال: نعم، حدثني ورش قال: خرجت من مصر، لأقرأ على نافع، فلما وصلت إلى المدينة، صرت إلى مسجد نافع، فإذا هو لا يطاق القراءة عليه من كثرتهم، وإنما يقرئ ثلاثين.
فجلست خلف الحلقة، وقلت لإنسان: من أكبر الناس عند نافع؟ فقال لي: كبير الجعفريين، فقلت: فكيف به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله.
وجئنا إلى منزله، فخرج شيخ فقلت: أنا من مصر، جئت لأقرأ على نافع، فلم أصل إليه، وأخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه، فقال: نعم وكرامة.
وأخذ طيلسانه ومضى معنا إلى نافع، وكان لنافع كنيتان، أبو رويم وأبو عبد الله فبأيهما نودي أجاب، فقال له الجعفري: هذا وسيلتي إليك، جاء من مصر ليس معه تجارة، ولا جاء لحج، إنما جاء للقراءة خاصة.
فقال: ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار، فقال صديقه: تحتال له، فقال لي نافع: أيمكنك، أن تبيت في المسجد؟ قلت: نعم، فبت في المسجد فلما أن كان الفجر جاء نافع. فقال ما فعل الغريب: فقلت: ها أنا رحمك الله، قال: أنت أولى بالقراءة، قال: وكنت مع ذلك حسن الصوت، مدادا به، فاستفتحت فملأ صوتي مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فقرأت ثلاثين آية فأشار بيده أن اسكت فسكت، فقام إليه شاب من الحلقة، فقال: يا معلم أعزك الله، نحن معك وهذا رجل غريب. وإنما رحل للقراءة عليك، وقد جعلت له عشرا واقتصر على عشرين فقال: نعم وكرامة فقرأت عشرا فقام فتى آخر، فقال كقول صاحبه فقرأت عشرا وقعدت واقتصرت على عشرين، حتى لم يبق له أحد ممن له قراءة.
فقال لي: اقرأ فأقرأني خمسين آية فما زلت أقرأ عليه خمسين في خمسين حتى قرأت عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة، توفي ورش بمصر سنة سبع وتسعين ومائة).
[كتاب معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، الذهبي، شمس الدين، الطبقة الخامسة: ص92،93] .
وتوفي الإمام نافعٌ، وتوفي الإمام ورشٌ، وتوفي إخوانه المؤثرون بوقتهم، ولكن الله تعالى قد خلَّد رواية ورش عن نافع، حتى يوم الناس هذا، وإلى أن تقوم الساعة، فلكل أجره، ولكل ثوابه، ولكل فضله، وثقُلت موازين هؤلاء أجمعين، وتلكم من بركات الإيثار، وهذه من منح الكريم الغفار!
وما سلف صورة من صور الإيثار، وما سبق جانب من الجوانب الوضيئة من سيرة هؤلاء الرهط الكرام.
وذلكم هو صنع العقيدة الصافية في أصحابها، فتثقلهم وتصنع منهم رجالا هم فوق الوصف مما يبلغه الواصفون، وهم فوق القمم السامقة بأفعالهم، وهم قد ترسموا أصول الفضائل بأعمالهم!
قال الله تعالى عنهم فيه ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
فهي نعوت متوالية، وهي صفات سامقة متتالية، تشرئب أمامها الأعناق، ويتشوف إليها ذووا الهمم والمروءات!
فهم أولاء قد جاء ذكرهم بالاسم الموصول تقريرا واهتماما وذكرا وثناء ومدحة وبرهانا، على كريم الشيم، ودليلا على حميد القيم!
وهم قد تبوؤا الدار، فدل على أنهم كلهم قد تحلوا بذلكم نفيس من خلق، وهي شارة عز أن يوصف مجتمع بأسره بها، لولا أنها كانت حقا لهم جميعا نعتا، ولولا أنها كانت فيهم كلهم وصفا!
فلم يشذ واحد من القوم، وكأنما قد اجتمعوا على أن زينتهم الفضل، وكأنما قد توافقوا على أن شارتهم الإيثار!
ودونك مجتمع هذا شأنه، قد جاء ذكره في كتاب خالد، هكذا قد أوقفنا على السر، وقد أتانا بالبرهان، إذ هم القوم كلهم، وكأنما قد تواتروا على جميل إيثار كلهم، في مقابلة إخوان لهم في الدين، قد جاءوهم مهاجرين، إلى الله تعالى ورسوله!
وكأنما قد كان في لوحه تعالى المحفوظ، أن قوما سيهاجرون إلى الله تعالى ورسوله، سيجدون من يفتح لهم الأبواب، وسيألفون قوما قد آثروهم بأموالهم وأهليهم، فهو رضا من فوق رضا، وهو فضل من بعد فضل، للمهاجرين إلى الله ورسوله، بإغداق إخوانهم عليهم، وفضل من بعد فضل، لإخوانهم الأنصار، أن قد تضافروا على ألا حاجة لإخوانهم أمامهم إلا قضوها، وكيف لا وهاهم إخوانهم في الإسلام قد جاؤا، وكيف لا وهاهم أولياؤهم في الإسلام قد حلوا ! وكيف لا وهاهم أخلاقهم عالية، وكيف لا وهاهم مناقبهم سامية!
وهم كلهم قد آثروا، وهم كلهم قد تبوؤا الدار! وكلها!
وهم كلهم قد تبوؤا الإيمان كله!
وذلكم أفيد من نص الكتاب، وذلكم ألمحه من فحوى الخطاب. من قوله تعالى ﴿ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾.[الحشر: 9].
وهو تجسيم جرى مجرى الكناية، وكأن الإيمان مائدة شهية، فما تركوا منها شيئا، إلا وقد أشبعوا من إطعامه، وما انفك القوم إلا وهم قد تذوقوا حلاوته، كما أنهم قد عاينوا طلاوته وعبقه وعبيره ونسيمه!
حتى كان من اجتماعهم عليه، أن أتوا عليه، استعلاء بحق، وارتقاء بفضل، وإنعاما بزكاء، وإحسانا ببر!