الأدب الذي نريده، الأدب الأصيل بعيدًا عن الأدب الزائف، دون الوقوع في خلط بين شعبيَّة الأدب وغوغائيَّته، نريد أدبًا قائدًا لا مَقُودًا، نريد أدبًا يبني لا يهدم، يعترف بالجميل، يتجاوز مَعاوِل الهدم والتخريب، فالتاريخ شاهدٌ على تلاشيها، مثلما حبط عمل كل دعاة التقليد، عندها فقط تُطلِق الحريَّةُ أجنحتنا نحو نغم النعيم.
فمن هــــو الأديب؟ الأديب هو الكاتب الضليع ،صاحب الأخلاق الحميدة والأدب وحسن المعاملة. وتدل كلمة أديب على الإحترام ومكارم الأخلاق والتهذيب. إنّ ما نبحث عنه في الأدب ليس هو الواقع تماماً، وإنّما هو الإحتفاء بإظهار الحقيقة. ألا يعتبر ربط الناس بأراضٍ وثقافات بعيدة، مواطن قوة في الأدب الجيد. ولذلك كانت النصيحة "إنك تكذبين كثيراً لماذا لا تتجهين إلى كتابة الرواية؟!" فهذه النقائص تتحول إلى فضائل في الأدب. إنّ معرفة الأدب ليست غاية لذاتها، وإنّما هي إحدى السبل الأكيدة التي تقود إلى اكتمال كلّ إنسان. والأدب خير ميراث. لأن الأدب الجميل مثل الحبّ الخاسر، لا يسعد فقط، ولكنّه يجنن صاحبه ومتلقّيه أيضاً. فمن لم يكتسب بالأدب مالاً، اكتسب به جمالاً. في الشخص، في الأسلوب، في كل شيء، التفوق الأسمى هو البساطة. وغاية الأدب، أن يستحي المرء من نفسه أولاً. الأدب هو موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخصّ آخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة.
ولو أردنا أن نعرف مقدار رُقِي بلد، فلننظر إلى عدد الكتب التي تُباع فيه،هذه الكتب تصير مع الزمن كنزًا عزيزًا على مالكها؛ حتى يؤرقه يومًا مصيرُها بعده، وتلح عليه فكرة وراثة الكتب بشجونها، ويواسي نفسه بعزاء ليس فيه سوى الإكبار لهذه الثروة، فخيرُ ميراثٍ وُرِّث كتبٌ وعلم، وخير المورِّثين مَن أَوْرَث ما يجمع ولا يفرِّق، ويبصِّر ولا يعمي، ويعطي ولا يأخذ.فالأدب هو الحضارة . والحضارة ليست أدوات نستعملها ونستهلكها، وإنما هي أخلاق سامية نوظفها. غير أن الكتابة أساسًا فنٌّ كما القراءة، ولها مفاتيحها ، فتنكشف مكانة الكتابة في مدِّ جسور المعرفة والحضارة عبر زمن الوعي الإنساني، ليس ذلك فحسب، بل أضحت وسيلة للسموِّ النفسي والوجداني، ومنه خلقت لذة الكتابة، وانبعث معنى الخلود مع النصوص التي تحيا إلى الأبد، تقاوم الفناءَ بقدرتها على الوصول وإختراق الزمن والمسافة، مع الإحتفاظ بقوة تأثيرها. فالكاتب الحق هو مَن يحمل أمانة القلم وأمانة الكلمة. والأدباء هم صناع الحضارة، وحدَهم يملكون ما به استحقُّوا شرف اللقب، فليكن القول الفصل: (ارفعوا أيديَكم عن الأدب)، ودعوه لأهله وخاصَّته يُصلحون ذات بينِهم بدرايتهم، فرأس الأدب كله حسن الفهم والتفهم، والإصغاء للمتكلم.
والأديب له سمات:
* فهو شخص مثقف ومتطلع ويتمتع بقلب ابيض وكبير متسامح ويتعاطف كثيرًا مع المظلومين.
* كرامته من أهم الأشياء عنده ولا يسمح لأحد ان يتعدى حدوده معه.
* كرامته هذه لا تعنى التكبر بل بالعكس فهو متواضع ولكنه ليس وضيع.
* الأديب شخص ذكي ونشيط ويستطيع تحمل المسؤولية.
* جرئ ومتفاهم ويحب التأني في اتخاذ القرارات التي تخص حياته الشخصية والعملية.
والأديب الناجح هو من يجذب القارئَ ليدخل دائرة الترغيب والتحفيز، ويخوض غمار القراءة بعوالِمها السحرية العجائبية، وآفاقها اللامتناهية، فيضعه في مقام سيد المعرفة، وتتحرك العاطفة نحو الكتاب في قالب تَوْعوي.قال شبيب بن شيبة: “اطلبوا الأدب فإنه مادة العقل، ودليل المروءة وصاحب الغربة، مؤنس في الوحشة، وحلية في المجالس، ويجمع لكم القلوب المختلفة.”
الأدب هو منحة ربانية يجود بها الله على أرباب القلوب. الأدب هو مجموعة الآثار المكتوبة التي يتجلَّى فيها العقل الإنساني بالإنشاء أو الفن الكتابي، فليس الأدب إذًا وصف ألفاظ فحسب، ولا هو حشد أفكار فحسب، بل هو الفن الذي يُحسن فيه الإنسان التعبيرَ عن حسن التفكير، والأدبُ الخالص يدلُّ على شخصية الأديب ويكشف عن صور الحياة، ويعبر عن الخواطر والمشاعر النفسية، إنه صورةٌ ناطقة لحياة الأفراد والأمم، إعتمادًا على مفاهيم مستخلَصة من النظريات المعرفية في ميدان علم النفس التربوي؛ لحضور الطابع التعليمي.
ومن الأمثلة المشرفة لأدباء خلدهم ا لتاريخ:
الكاتبة البريطانية جين أوستن التى لا تزال رواياتها تشغل صناع السينما والتلفزيون ودور النشر والقراء والمشتغلين بالأدب بعد مرور مائتي عام على وفاتها. أوستن تميزت بقدرتها أن تسحب القُراء من عالمهم الواقعي إلى عالم آخر متخيل. فهى كاتبة كلاسيكية إستطاعت بعبقريتها الروائية سبر أغوار الطبيعة البشرية. فقد كانت كانت إمرأة طموحة ومتمردة على تقاليد زمنها. وفي كل عام تحتفل بريطانيا في بلدة باث تحديدا بذكرى ميلاد جين أوستن، عبر مهرجان يرتدي فيه حوالي خمسمائة شخص، أزياء تشبه ما يرتديه أبطال وشخصيات من روايات أوستن. ويخرجون إلى الشوارع في ممشى خاص معلنين بداية مهرجان أوستن السنوي. هى من غستطاعت أن ترسم فى رواياتها صورة تجمع بين الرومانسية الحالمة والواقعية المسكونة بالسخرية.
عاشت أوستن بلا زواجٍ ودارت موضوعات رواياتها حول الحب والزواج والمال. ولم تكن شخصياتها ترتبط في سلوكياتها أخلاقياتها بالقيم الروحية بقدر ارتباطها بالمجتمع آنذاك. إن أوستن كانت مهتمة جدًّا بتحقيق استقرار المجتمع. وربما كان الدافع وراء اهتمامها الشديد بالمجتمع وعلاقاته هو أنها عاشت في زمن الثورة الفرنسية التي أعلت من قدر المواطن الفرد كأساسٍ لقوة المجتمع.
وإذا كان القول الشائع يشير إلى أن الروائي في رواياته يبحث دائمًا عن "معنى الحياة" فإن أوستن كانت تبحث عن "معنى المجتمع" وكيفية تحقيق الاستنارة والوعي في مجتمعها. أوستن تجعل الزواج هو النهاية المحتومة لرواياتها لكنها في ذات الوقت توضح أن الزواج لا يحقق السعادة دائمًا.
الموضوع الثاني الذي تدور حوله روايات أوستن هو المال. وتشدد روايات أوستن على أن الزواج سعيًا لمال الزوج أو الزوجة هو أمر عقلاني وسلوك لا غبار عليه. والطريف في الأمر أن أوستن لم تكن أبدًا من الأثرياء أو امتلكت مالًا وفيرًا، ولعل هذا هو سبب اهتمامها بالمال!. واجهت أوستن في زمنها انتقادات ومخاوف من الأفكار التي تضمنتها رواياتها، على اعتبار أنها تساعد النساء على معرفة أنفسهن أكثر، وبالتالي على تغيير اختياراتهن وقراراتهن في الحياة، مما سينعكس مباشرة على الثوابت الإجتماعية الصارمة للارستقراطية الإنكليزية العريقة؛ التي تجرأت أوستن على تحديها عبر أفكار نسوية واضحة، وأسلوب يجمع بين السخرية والمفارقة.
النموذج المشرف الثانى هو تشارلز ديكنز. هذا الروائي والصحافي الإنجليزي القدير الذى كان رجلاً موهوباً وظّف طاقاته التعبيرية وغضبه من الأوضاع البائسة التي عانتها قطاعات واسعة من مواطنيه عشية صعود الرأسمالية في بلاده لتقديم نقد اجتماعي متقدم لآثام الرأسمالية عبر سلسلة من أعمال أدبية خالدة، تركت في مجموعها أثراً لا ينكر على إدراك الطبقة البرجوازية أوجاع بعض فئات المجتمع الأقل حظاً، وساعدت بشكل أو بآخر في تهذيب القوانين والسياسات التي استهدفتهم، وأصبحت كلاسيكيات في إطار الأدب الإنجليزي الغاضب، لكن المقبول من الجميع، ودائماً داخل الخطوط الحمراء للمنظومة الليبرالية للمجتمع البريطاني. لم يتلق تعليماً منتظماً، واضطر إلى العمل في مراهقته لإنقاذ والده من سجن الغارمين. لكن موهبته في الكتابة فرضت نفسها، فعمل محرراً لصحيفة أسبوعية عشرين عاماً، ونشر 15 رواية طويلة، وخمس قصيرة، ومئات القصص القصيرة والمقالات.
وقد تضمنت «أوليفر تويست» وصفاً مفعماً بالحياة لنمط حياة الفقراء في أحياء البؤس المحيطة بالمدن، وأصيب كثير من برجوازيي العاصمة لندن بالصدمة عندما علموا بأن حي «جيكوبس آيلاند» السيء الذي وصفه ديكنز في الرواية كان موجوداً بالفعل على بعد أميال قليلة من قصورهم ومساكنهم الفارهة (قبل أن يزال من الخريطة بالكامل عام 1860).
وقد حذر ديكنز لاحقاً في «قصة مدينتين» من أن تجاهل الحكومات للأوضاع الرثة لسكان تلك الأحياء (باريس ولندن) سيدفعهم آجلاً إلى التمرد والعصيان، وعاجلاً إلى الجريمة والموبقات، مستشهداً بالظروف التاريخية للفترة قبل وأثناء الثورة الفرنسية. وهو في مقالاته الصحافية أيضاً كان يدعم التدخل الحكومي لمنع الفوضى الممكنة، ويدعو إلى نشر التعليم العام كوسيلة لتوجيه الفقراء بعيداً عن السلوكيات السيئة، وتأسيس إصلاحيات بدلاً من السجون للأحداث الذين يتورطون بالجرائم.
وفي روايته «هارد تايمز – 1854» صبّ جام غضبه على نظم الإدارة في المصانع لا المصانع ذاتها. وهو في الرواية كما مقالاته من تلك الفترة أشار إلى أن العمال لا يريدون أجوراً أفضل بقدر ما هم في حاجة إلى وظائف تكسب حياتهم الرتيبة معنى، وتمنحهم مساحات للترفيه واستعادة النشاط. مهما تعددت الآراء في مجمل أعمال تشارلز ديكنز، ومهما تناقضت التصنيفات التي أسبغها النقاد عليه في المراحل المختلفة وصولاً إلى وقتنا الراهن، فإن هنالك إجماعاً على أن الرجل كان نموذجاً فريداً في توظيف موهبته الأدبية الفذة لنقد الظواهر الاجتماعية السلبية، فكان ضوء كلماته يبرق في عتمة مواضع الألم التي تمس حياة مواطنيه كجزء من التزام إنساني ووطني لا يتزعزع. فإن لم تكن تلك مهمة الأديب فماذا يمكنها أن تكون؟
وتبقى الأخلاق هي الداعمَ الأساسى للقلم والفكر؛ ما يوجب الاعتراف بفضل السابقين، وتوخي الأدب والتواضع، فأنت حسنة مِن حسناتهم، شعرت أم لم تشعر. وحين تداهمنا فكرةٌ ما مثيرة، تحرِّك عالم النفس وحديثها، تلك المَلَكة العبقرية الشفَّافة التي تسكن الكاتب، وضمنها تتبلور أفكاره ويعيش لحظات أيامه.