تبدو كلمة "التمكين" في الأدبيات الإسلامية، كملة مشحونة بالسيطرة المطلقة والكاملة بدون أي نوع من أنواع المقاومة أو المشاركة، وهو ما يؤكد عليه الصلابي كتابه حيث قال أن التمكين في اللغة "أستمكن الرجل من الشيء وتمكّن منه"، أي لا يمكنه النهوض أي لا يقدر عليه !، وهو في اللغة السلطان والملك، أما إصطلاحياً فينقل الصلابي عن أستاذه فتحي يكن : بلوغ حالة من النصر، وإمتلاك قدر من القوة وحيازة شيء من السلطة والسلطان. [18].
من الناحية السياسية يقول الصلابي أن أحد أنواع التمكين هو "إقامة الدولة"، وهو ما معناه وصول أهل التوحيد والإيمان الصحيح إلى سدّة الحكم، أو حتى المشاركة في الحكم بشكل جزئي، وإن كانت المشاركة في "حكومات جاهلية" حسب تعبيره [83]، مستشهداً بقصة النبي يوسف عندما عمل بالوزارة لملك مصر المشرك !!
ولكن كيف السبيل إلى الوصول للسلطة وسدّة الحكم حسب وجهة نظر الصلابي، هل بطرق سلمية أم بحمل السلاح ؟!، الحقيقة أن الصلابي في كتابه يؤيد الطريقتين، ما دامت قادرة على إنجاز التمكين، فهو في حين يثمّن على الطرق السلمية التي إنتهجتها الحركة الإسلامية في الأردن على سبيل المثال، لكنه أيضاً يؤيد ما حدث من إنقلاب عسكري في السودان، والحركة المسلحة التي قادها الشيخ محمد عبد الوهاب من أجل الوصول لهدف التمكين.
ونقتبس :
رأى بعض الدعاة أن مسلك الإنقلاب العسكري غير صحيح للوصول لمرحلة التمكين وقالوا إن فكرة الإنقلاب العسكري فكرة غربية بل وأمريكية خالصة، ..... ونقول أن الشعوب الإسلامية لو ترك لها الإختيار لأختارت الإسلام، فإذا كانت الأحزاب العلمانية تصر على مصادرة الحريات، ومنع الشريعة أن تسود وتحكم المسلمين واستطاعت مجموعة من الأخيار المسلمين أن تنزع الحكم من الأحزاب العلمانية وتطبق شرع الله يكون سعيها ذاك جهاد في سبيل الله تعالى، كيف لا وهم قد أزاحوا عن الأمة حكم الأحزاب العلمانية، والدساتير الوضعية، والقوانين البشرية، وخلصوا أمتهم من الظلم البشري والغطرسة الكفرية، وأعانوهم على تحكيم شرع ربهم، لقد تكلم العلماء في كتب السياسية الشرعية وغيرها عن انعقاد الإمامة بالغلبة والقهر، فيما بين المسلمي، فكيف لو انتزع الحكم من العلمانيين ؟ ذهب جمهور فقهاء أهل السنة منهم الإمام أحمد بن حنبل، والإمام الشافعي، والنووي، وإمام الحرمين الجويني، وابن خلدون، وبعض علماء الحنفية، وغيرهم إلى أن من غلب النّاس واستولى على الخلافة بالقهر فإنه يصبح إماماً تجب طاعته يقول الإمام أحمد بن حنبل : "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً".
ويقول الإمام : يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع ذاك قوم تكون الجمعة مع من غلب، واحتج بالخبر المروي عن ابن عمر أنه صلى بأهل المدينة زمن الحرة وقال : "نحن مع من غلب" وهذا مذهب الإمام الشافعي فقد روى البيهقي بإسناده عن حرملة قال سمعت الشافعي يقول : "كل كم غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة، ويجمع الناس عليه فهو خليفة".
وقال الإمام النووي: "أما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء، فإن مات الإمام فتصدى للإمامة من جميع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة وقهر الناس بشوكته وجنوده انعقدت خلافته، لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعاً للشرائط بأن كان فاسقاً أو جاهلاً فوجهان، أصحهما انعقادها لما ذكر، وإن كان عاصياً بفعله".
إن الذين يعطلون شرع الله تعالى، ويمنعون حق الأمة في الإختيار يجب إزاحتهم ولو بالقوة، فإن استطاعت حركة إسلامية في بلد ما أن تزيح حزباً علمانياً من على سدة الحكم، وعملت على إرجاع الشريعة والدستور الإسلامي ثم أعطت لشعبها حق الاختيار في من يشرف على تحكيم شرع الله ومن يقودها إلى العزة والنصر والتمكين، فذلك العمل العظيم يوافق مقاصد الشرع، وينسجم مع أصول الشريعة ولا يتعارض مع العقل ولا النقل ولا الفطرة. [431].
أي أن الصلابي يؤيد أي إنقلاب عسكري أو تمرد مسلح ما دامت الدولة لا تحكم بشرع الله، بل أنه يستدل بالأحاديث على فكرة الغلبة بالسيف، فالحكم لمن غلب !!
ولكن ما الهدف من التمكين لدى الصلابي، هل هو إقامة المجتمع التعددي والحر ؟!، يبدو هذا السؤال ساذجاً بعد كل الذي تم سرده، الهدف طبعاً هو إقامة المجتمع المسلم .. دولة الإسلام .. وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق الحدود [435]، أو ما يمكن بإختصار التعبير عنه بلفظة "الحاكمية" كما قالها نصاً الصلابي.
والجدير بالذكر أن لفظة الحاكمية قد ظهرت لأول مرّة على يد الشيخ "أبو الأعلى المودودي" الذي وصفه الصلابي في هذا الكتاب بصاحب التجربة الرائعة في إنقاذ المسلمين من خدعة القومية الهندية، وإقامة دولة باكستان [304]، ثم تلقف الكلمة "سيد قطب" الذي يقتبس منه الصلابي في هذا الكتاب مقاطع كاملة من كتاب "في ظلال القرآن" من خلال تأكيده لمسألة الحاكمية.
وفي دولة "الحاكمية"، لا مجال لأي تعددية سياسية أو فكرية، فلا لون إلا اللون الواحد،ولا نقاش ولا آراء وجدال، فالنقاش هو إعتراض على حكم الله، والآراء معدّة مسبقاً، والقرارات أتخذت بشكل إلهي منذ مئات السنين.
أما رأس هذه الدولة فلا يتم إنتخابه من الشعب على رأي الصلابي، بل هي مسؤولية أهل الحل والعقد [ وأهل الحل والعقد ينظرون في الشروط التي حددتها الشريعة لولي الأمر، وينوبون عن الأمة في إختيار رجل مستوف لتلك الشرائط التيث تعتبر المعيار الشرعي للصلاك المطلوب في الحاكم] [446] .
فما هي هذه الشروط ؟!
يقول الصلابي هذه الشروط منها ما هو شروط صحة وشروط كمال، لكن أهم هذه الشروط هي الإسلام والذكورة والقرشية، أي أن يكون من قريش، يقول الصلابي، وقد أختلفت القرشية في كونها صحة أو كمال، وذهب الجمهور إلى أنه شرط صحة بشرط وهو إقامة الدين الذي هو المطلب من وراء الإمامة.
وإستكمالاً لبقية أهداف التمكين، فمن أهداف التمكين المساواة، لكن الصلابي يستطرد، وليس المقصود بالمساواة هنا "المساواة العامة" بين الناس جميعاً ! ، في كافة أمور الحياة، كما ينادي بعض المخدوعين ويرون ذلك عدلاً ، لكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية !! [471].
أما يد الدولة الحاكمية الضاربة، حسب تصوّر الدكتور على الصلابي لشكل الدولة، فيتمثل في إنشاء هيئة خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لها مؤسساتها وأنظمتها وقوانينها ولوائحها، نقتبس من كتاب الصلابي [ تقوم هذه الهيئة بإلزام الناس بمنهج الإسلام في الحياة وتقف الحكومة وراء هذه الهيئة وتدعمها، ويدخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الحدود، وجلب المصالح، وإحياء الأخلاق الكريمة] [482].
هذا بخصوص يد الدولة الضاربة داخلياً، فماذا عن يدها الضاربة خارجياً ؟!
يقول الصلابي :
[ إن الدولة الإسلامية التي تسعى لتحقيق أهداف التمكين من واجباتها تشكيل وزارة للجهاد في سبيل الله][ 490].
[ إن الجهاد في سبيل الله له أهداف أهمها : إقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض ][493].
[ إن إقامة حكم الله في الأرض هدف من أهداف الجهاد، ولذلك تسعى الدولة المسلمة لتحقيق هذا الهدف من خلال أجهزتها ومؤسساتها وتوظيف كل إمكانياتها ، وفتح المجال للمسلمين للسعي الدئوب من أجل إنزال حكم الله ] [494].
[ وهذه الأهداف النبيلة تجهل قيادة الأمة تنازل قوى البغي في ميادين الجهاد، لأن القوى الكافرة دائماً وأبداً تعد العدة وتبذل جهدها للقضاء على الإسلام والمسلمين، لهذا تركب الأمة صهوات المجد، وتسل سيوفها ضد أعداء البشرية ممن يعتقدون الكفر والضلال والفساد، فتكون ثمرة هذا الجهاد المبارك القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم، وتطهير الأرض من سيطرتهم ] [489].
وهكذا تكتمل صورة الدولة التي تداعب خيال الصلابي وكيفية الوصول إليها، وهي تشبه إلى حد بعيد دولة إسلامية فتية أخرى تشكلت منذ سنوات قليلة، لكنها سرعان ما أنهارت وتلاشت بسبب كيد أعداء الإسلام بكل تأكيد، وحقدهم على الإسلام والمسلمين.
أحمد البخاري
للإستماع إلى البودكاست :
تحت الغلاف : الصلابي وفقه التمكين