قال الله تعالى ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. [الأنعام: 45].  

وجملة القرآن المجيد ﴿وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾ نفيد منها ثناء كاملا على الله تعالى، إذ هو مستحق لذلكم حمد ، على إنعامه على رسله وأهل طاعته, بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر, وتحقيق عِدَاتِهم ما وَعدوهم على كفرهم بالله وتكذيبهم رسله من نقم الله وعاجل عذابه.

﴿وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾ على إهلاك الظالمين.

وقولنا إنه إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظالمين - وإذ لاشماتة - فإنه من أجلّ النعم وأجزل القَسْمِ. ذلك لأن هلاكهم إصلاح لمجتمع الناس، وعبرة لكل ظالم، يرفع رأسه بظلم، أو يطل قامته بعوج!

وأيضا فإنه تعالى لما علم قسوة قلوبهم، وأنه كلما طال أمد بقائهم فإن مدى ارتكابهم لاعوجاج أوسع، وإن فسحة ظلمهم لأفسح، ومنه كان هلاكهم إيذانا برحمة من الله تعالى ورضوان لهم، إذ لم يزدادوا ظلما إلى ظلمهم، ليزدادوا إثما مع إثمهم، فيضاعف عليهم عذابه، ويحل بهم عقابه، على وجه هو سبحانه الأعلم به، والحال أنهم كذلك، والله المستعان!

كما أن في إهلاكهم نظافة وطهارة كما - قلت - والحال أن بقاءهم فيه زيادة نكير ، وفيه زيادة إثم حال ومواجهته مركبه فكفى الله تعالى المؤمنين مؤنة ذلك فكان منه ﴿ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾!  

وهو تعليم للمؤمنين كيف يمكن لهم أن  يحمدوه تعالى على جميل الإنعام وسابغ الفضل وعظيم الإحسان.

وهوتعليم لأمة الرشد أن تتعلم شكرها وثناءها على كل ذي فضل له عليها.

كما أنه ثناء منه تعالى على نفسه، وهو إنشاء للمدح والتمجيد والثناء، وهو كشف للإشادة والتزكية والتنويه والإطراء.

وكلها من معاني الفضل وإسناده لأهله.

وربنا الرحمن سبحانه أهل لكل ثناء ومجد، وهو سبحانه أهل لكل حمد وشكر.

وجائز أن يكون هذا الحمد والثناء إنما حصل على وجود إنعام الله عليهم في أن كلفهم وأزال العذر والعلة عنهم ودبرهم بكل الوجوه الممكنة في التدبير الحسن، وذلك بأن أخذهم أولاً بالبأساء والضراء، ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء، وأمهلهم وبعث الأنبياء والرسل إليهم، فلما لم يزدادوا إلا انهماكاً في الغي والكفر، أفناهم الله وطهر وجه الأرض من شرهم، فكان قوله ﴿ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾ على تلك النعم الكثيرة المتقدمة.[ تفسير الرازي - ج 12/238].  

واللام في قوله تعالى ﴿ٱلْحَمْدُ﴾ للجنس، أي وجنس الحمد لله تعالى.

كما أنها تفيد استحقاقا واستغراقا واختصاصا.

1 - ومنه يكون  ربنا الرحمن سبحانه مستحقا للحمد لموجبه.

ومن موجبه خلقه لنا، ورزقه لنا، وإنزاله المطر لنا، وإسباغ نعمه تترى علينا، سحاء غدقا، آناء الليل، وأطراف النهار.

قال الله تعالى ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم:34].

2 - واستغراق الحمد لله على أن الحمد كله لله تعالى، بحيث يعتقد أن كل عبد مهما قد حمد، ومهما أثنى، ومهما أن شكر لله تعالى، فتظل في فؤاده حاجة لذكر ربه حمدا له، وثناء عليه، وشكرا له، إذ كيف به يسدى حمدا مكافئا ولو لنعمة واحدة مما منحه الله تعالى إياها؟!

3 - واختصاص الحمد كله لله تعالى قمن أن يحقق بعضا من العبودية لربه الرحمن سبحانه.

وأفهم أن اختصاصه تعالى بالحمد من قوله تعالى ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. [الجاثية:36].

ولطيفة أريد بيانها:

ذلك أنه يلاحظ أن مادة الحمد عند ورودها في القرآن العظيم قد جاءت متناغمة بين تقديم وتأخير بين مادتي الحمد والألوهية، في غير ما موضع منه، وعلى نفس السياق، وبذات العبارة. وهذا التناغم إن أنبأ فإنه ينبيء عن كثير من معاني الحمد وتضافرها كما، وإنه يشي بإبراز كريم لمعاني الألوهية، وأن حمدا لله قد وجب، وأن ثناء عليه تعالى قد فرض!

أزيد إيضاحا لأقول: إنه عند النظر إلى قوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾. [الفاتحة:2].لنرى تقديما لمادة الحمد معرفة دلالة على الاستغراق والاستحقاق.

وعند النظر إلى قوله تعالى ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. [الجاثية:36]. لنرى تقديما لمادة الألوهية على مادة الحمد دلالة على الاختصاص.

كما أنه في الحالين يشي بعظيم اهتمامه تعالى بمسألة أولوهيته، كيما تكون حاضرة في أذهان الناس دائما وأبدا!

وهذه واحدة!

كما أنه تعالى عندما يحمده عبده، وفي الذكر الحكيم، له تعليم كيف يحمده، وعلى ذات الصورة التي جاء بها النظم المبين ﴿ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾ ليشمل الحمد ربوبية الله تعالى، منضما إليها ألوهيته تعالى، فان الحمد كيما يكون حمدا مستغرقا لوجوهه، وعلى استحقاقه لله تعالى، وعلى الاختصاص له تعالى بوجوه المحامد والثناء والشكر والتعظيم، فكان منه أن تنضم صفتا الربوبية والألوهية جنبا إلى جنب، حال كون العبد متوجها بحمده لمولاه سبحانه.

وهذه ثانيتها!

وتلك لطيفة غاية في الأهمية، كما أنها غاية في البيان، فتأمل!

فحمده تعالى قائم على ربوبيته من خلق من تراب، ومن إيجاد من حمأ مسنون، ومن إحيائه الموتى، ومن إماتته الأحياء، كما أنه حمد واجب، لأن الله تعالى هو الله المستحق وحده للعبادة دون سواه.

وأعجب حينما يحمده قوم وهم في جانبي الربوبية والألوهية راسبون!   

ولأنّ الظلم كان من حتم نتاجه ضياع الحقوق وتغييرها، ومنه إضاعة حقه تعالى في العمل بشرعه، كيما يكون مهيمنا، كما هو الحق، وكما هو مراد له، فرضا من الله تعالى ، فإن الله تعالى لم ينزل كتابه، إلا كيما يكون مهيمنا على ما سواه، وهذا هو مطلق الاعتراف بقيوميته تعالى .

قال الله تعالى ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾. [المائدة: 48].

وإحلال باطل محل حق ظلم، ومنه يكون قطع ظلم بقطع دابر الظالمين فتحا من الله تعالى، موجبا لحمده والثناء عليه سبحانه.

ومنه كان ﴿ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾!

وبقي مما بقي من معطيات الحمد لله تعالى رب العالمين أن أقول قولا مقتضاه: إن جملة القرآن المجيد ﴿وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾، قد جاء ذكرها في القرآن العظيم على نفس النسق، وبذات الترتيب غيرة مرة. وذلكم ليس تكرارا بقدر ما إنه حشد للحمد لله رب العالمين، لما له مما سبق من فضل، ومما له مما أنف من بيان.

ذلك أنه يلاحظ أن مادة الحمد عند ورودها في القرآن العظيم قد جاءت في غير ما موضع، وعلى نفس السياق، وبذات العبارة. مما يدل على أنها من الأهمية بمكان، أن يحمد الله تعالى وعلى كل حال.

قال الله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾. [الفاتحة:2].

وقال تعالى ﴿وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾. [الأنعام:45].

وقال تعالى ﴿وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾. [الصافات: 182].

وقال تعالى ﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ . [الزمر: 75].

ومنه كان أيضا ﴿وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾!