"الفن هو تكنولوجيا الروح" هذه مقولة الشاعر الأمريكي روبرت كاندل، وهو أحد رواد القصيدة الرقمية ، ويضيف "كلنا يعرف أن الشعر والتكنولوجيا شيئان متوازنان لا يتقاطعان، إلا حين نتذكر أن الكتابة ليست سوى ضرب من التقنية أيضا".
لا شك أن الأدب سبق النقد وأن خير الكلام ما ملأ الأنام وشغلهم. فقديماً كانت القصائد الطوال إحدى أهم سمات الشاعر "الفحل". فقد كان لا يُعتدُّ بالشاعر إلا إذا كان له نَفَسٌ طويلٌ في كتابة القصائد، بحيث تتجاوز تلك القصائد المائة بيتٍ، كما كان يكتب الجواهري، ومحمد صالح بحر العلوم، وعمر أبو ريشة، وبدوي الجبل. بل البعض من الشعراء كتب قصيدة واحدة، وطبعها في كتاب بوصفها ديواناً واحداً. وربما كان جبران خليل جبران قد سبق الجميع في قصيدته الطويلة «المواكب» التي خرجت بوصفها ديواناً مستقلاً، كما سبق أنْ قام الجواهري بطباعة ديوان هو عبارة عن قصيدة واحدة، كما في ديوانه «يا نديمي» وديوان «مرحباً أيها الأرق".
ولكن ما سبب تراجع القصيدة عموما؟ أرجع بعض المتتبعين للشأن الثقافي هذا التراجع إلى التطورات التكنولوجية التي غزت الحياة الاجتماعية، بداية بظهور فن السينما إلى إنتشار أجهزة التلفاز مروراً باكتشاف جهاز الحاسوب، ثم عالم الإنترنت. ويرى أن هذه الفنون «البصرية» تكون قد خطفت أنظار المتلقي العربي، وحولت ذوقه نحو البصريات الخاطفة، بدل السمعيات الرتيبة من أدب وشعر وغيرهما من الفنون التي تعود عليها المتلقي العربي. القصيدة الرقمية غيرت مسار الشعر إذن، والعهدة على النص المتشعب المترابط (هيبيرتيكست ). علي أن يكون الشاعر مقتنعاً ومتشبعاً ومتقناً إلى حد ما لبعض أُُسس التعامل مع هذه الآلات العجيبة، لكي يتمكن من إنشاء قصيدته. وبالتالى فسيتغير البوح وشكله.
فى مرحلة ما قبل «السوشيال ميديا»، لم ينشغل العقل كثيراً بالتقنيات الحديثة وتفاصيلها، وكان يُسمح للشعراء بأنْ يتحدثوا كثيراً، ويُسمح لهم في بعض المرَّات بأنْ يصلوا إلى مرحلة قد يظنها البعض هذيان، إلا إنها فى الحقيقة تعبر عن تجربة معينه منتجارب مبدعينا.
حتى الشعراء الذين كان لهم نمط معين من الكتابة، إستطاعت مواقع التواصل الاجتماعي أنْ تسحبهم إلى منطقتها، وتفرض عليهم شروط الكتابة، دون أنْ تُصرح بذلك. وبهذا، فإن نمط الكتابة خاضع لنمط الحياة التي نعيشها، وإنَّ الزمن هو الذي يفرض شروطه الإبداعية على الشاعر، وعلى شكل كتابته ومزاجها ومناخها. فالتكثيف والإيجاز من خصائص البلاغة، وبالمران الدائم على كتابة عددٍ محددٍ من الأبيات سيتعود المزاج الشعري على تأهيل العقل الشعري على كتابة معينة، بأبياتٍ أو مقاطع محددة فقط، دون أنْ تسمح له بالاستطرادات، أو الحشو اللغوي الزائد (وهذا لا يعني أنَّ النصوص الطويلة عبارة عن هذيانات، بل إنَّها تمثل تجربة معينة من تجارب مبدعينا في طريقها إلى الانقراض كما ذكرت من قبل)، فضلاً عن أن المقاطع الصغيرة سهلة الحفظ والتداول.
مصطلح الأدب الرقمي أو النص الرقمي التفاعلي أو المترابط يدخل فيه كل نص أدبي تحول فيه الحرف إلى رقم بترميز (01)، فأصبح رقميا، إذ كنا نعلم أن كل حرف أو صورة تتصل بجهاز الكمبيوتر تتحول إلى رقم وتدخل إلى بوابة الرقمية، وإذا كانت الحرف متصلا بجمالية أدبية فهو أدب رقمي بذلك. ولأن التقنية قد فرضت نفسها على المشهد الأدبي، ولم ينتظر ذلك النص الأدبي والأدباء جواز مرور من النقاد أو موافقة لكي يرحلوا بنتاجهم إلى تلك المواقع الإلكترونية، فلسنا في مقام المشرع حتى نقبل أو نرفض.
وبالتالى يجب أن تسعى المؤسسات المعنية بالأدب ثقافياً وأكاديمياً لتحمل مسئولياتها في هذا الزمن؛ للحفظ والرصد والدراسة والتوجيه. وعلى الأديب توظيف التقنية والإفادة منها. كما يجدر بالمؤسسات التربوية إعادة النظر في مناهج الأدب العربي في المدارس والجامعات في ضوء تطور رقمنة النص التراثي على التقنية، والإفادة منها بتمثل أفضل للتجارب القديمة، وتقديمها للأجيال من خلال عمل إحترافي. وعلى النُقاد والمؤسسات أن تواجه بشجاعة، حركة الأدب على مواقع التواصل الاجتماعي، بتقييم الماثل ورسم الطرق اللازمة له.
فمتى كانت ولادة أول قصيدة رقمية عربية؟ ولادة أول قصيدة رقمية عربية لأول شاعر رقمي عربي والمقصود طبعاً هو مجموعة الشاعر معن مشتاق "تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق" والتي قام الشاعر بإصدارها على قرص مدمج (سي دي).وذهب بعض الكتاب والكاتبات إلى ملاطفة هذه القصائد ووصفها بالقصائد الرقمية الأولى في الأدب العربي، متجاهلين بقصد أو غير قصد قصائد الأديب الأردني محمد سناجلة في رواياته الرقمية التفاعلية "شات" و "صقيع". وكانت حُجة البعض لدى نقاشهم في هذا التجاهل المقصود أن سناجلة قد ضمن قصائد رقمية ضمن نص سردي (رواية وقصة) ولم تأت القصائد بشكل منفصل وهو ما عدوه ضمن التجنيس الأدبي الذي لا يُعتد به.وأرى أن هذا ظلم أدبى له.
وهناك النص الرقمي المتفاعل (جزئيا) ونعني به ذلك النص الأدبي الذي يوظف بعض عناصر الميديا (صورة/ نص/ مقطع/ رابط..)، ومن ذلك جهد لبيبة خمار في إنتاج بعض النصوص المتعالقة مع بعض عناصر الميديا (صوت/صورة/ كلمة...الخ). تكون تلك المعطيات التقنية داعمة للنص لا متسلقة عليه. كما نلعب عناصر الملتيميديا دوراً فى دعم وعي النص وتلقيه. التقنية لا تأتي على هامش النص، بل متوازية في القيمية مع النص ذاته، وجزء من مكوناته لا يمكن فصله عنها.
وهنا يجب أن نؤكد على قيمية ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ونؤكد القلق الكبير من ضياع ثروات أدبية تُكتب كل يوم بالمئات على الشبكة ولا تلبث أن تزول بعد أيام،ومن هذا القلق جاءت فكرة مشروع حفظ النص الرقمي على مواقع التواصل الشبكي الذي تبناه نادي جدة الثقافي الأدبي.
و يتمثل عيب أخر في أنَّ الكتابة تروُّضها مواقع الإنترنت، وهي تُشبه الرقيب سابقاً. وبهذا، يتحوَّل «الأنترنت» الذي فتح أبواب الحرية سريعاً للجميع إلى جهة ضاغطة على الكاتب في أنْ يُلقي حمولته بأخف ما يستطيع، وما «تويتر» إلا نموذج هائل لهذا النمط من الكتابة. «فيسبوك» مثلاً لا يشترط عدداً محدداً من الحروف، بخلاف «تويتر» الذي يحدد صاحبه بعددٍ محددٍ من الكلمات والحروف، وهي طريقة للتكثيف والاختزال بعيداً عن الثرثرة، وبأقل عددٍ من الكلمات.
المؤثراث والزخرفة جد هامة في هذا العصر، أليس هذا عصر الصورة؟ فالصورة من التصوير ولنقل من التصور، وشعر بلا تصور هو مجرد مشروع قصيدة تحاول الخروج وقد لا يتحقق لها ذلك. لكن لن يتاح للشاعر الإنتشاروالشهرة إلا إذا كان شاعراً أولاً: فالقصيدة أولاً والرقمية والمؤثرات والزخرفة ثانيا.ً