في زمن ما سميّ بثورات الربيع العربي، ومطالبات شعوب المنطقة بالحرية، يقدّم لنا الدكتور علي الصلابي كتاب "الحريات من القرآن الكريم" ، وهو كتاب يتناول مسائل حرية التفكير والتعبير وحرية الإعتقاد والحريات الشخصية من المنظور الإسلامي، حيث يفترض الصلابي في كتابه أن كل هذه الحريات هي حريات مكفولة في الإسلام ؟، فهل هذا صحيح ؟!
يقول "علي الصلابي" في صفحات كتابه الأولى بأن الحرية في المفهوم الإسلامي هي قيمة كبرى ! [4]،وهي من صميم أصول الدين، وليست من فروعه، لكنه في نفس الوقت، يقول بإن جوهر هذه العقيدة هي نفي الخضوع عدا الأمر الإلهي !
ورغم هذه الفرضية التي ينادي بها الصلابي بكون الحرية في الإسلام قيمة جوهرية، إلا أنه يعترف بأن كلمة "الحرية"، لم ترد في القرآن أبداً، إنما وجدت بألفاظ أخرى مثل "الحر بالحر" [12]، وهو سياق لا أدري لماذا لم يتفطّن له الصلابي، فالحر هنا ليس غاية، بل صنف من طبقات البشر المعتادة، التي يتعامل معها النص القرآني دون استنكار لأي منها.
ومع ذلك، لا يكتفي الصلابي في هذا الكتاب إلى تقديم فكرة الحرية كقيمة أساسية، وجوهرية نادت بها الشريعة الإسلامية، لكنه يهاجم الحرية الغربية معتبراً إياها إزدواجية وتسيب وإباحية، ويشدد على أنها حرية مطلقة بلا قيد، فنجد العري في الطريق العام، والفضائح الجنسية في الحدائق العامة والمنتزهات على حسب تعبيره ! [35].
أما في موضوع المرأة فيقول الصلابي أن الغرب أحترم المرأة في الظاهر لا في الحقيقة، وأقتبس قوله من الكتاب نفسه حيث يقول :
"إن المرأة خلقت لتكون أما لتنشيء الأجيال في حضنها، ولذا تحمل وترضع وتربي، وتتوالى عليها الدورات الشهرية وتعاني ما تعاني في الحمل والولادة كما قال القرآن:" حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا" (الأحقاف، آية:1)
فكيف تطالب بما يطالب به الرجال؟ أليس هذا ظلماً للمرأة وتحميلاً لها أكثر مما تطيق، ومحاباة للرجل على حسابها؟"[37].
ومما تخرج به من هذا الهجوم على نمط حياة الدول "الغربية"، هو تلك الصورة النمطية للعقل "الشرقي"، الذي ما زال يعيش في خيالاته الساذجة حيث الغرب هو العري والإباحية والشذوذ، وهي عقلية لم تفهم العقلية الغربية، بل ولم تحتك بها أصلاً، بل تقدّم صورة سطحية نمطية عن بعد بدون عمق أو فهم، مع تحفظي طبعاً على مصطلحات وتصنيفات غرب وشرق التي لا أوافق عليها أيضاً، وأعتبرها جزء من التنميط والقولبة والتصنيف كذلك.
ثم نأتي لحرية التفكير، وكما هي مقدّمات الصلابي في كل موضوع، فإنه يؤكد بشكل قاطع أن حرية الفكر مضمونة ومكفولة في الإسلام، لكن يقول ـ بعد هذه المقدّمات ـ أن حرية التفكير مرهونة بشرطين :
عدم التفكير في ذات الله !، ومنع الفكر المؤدي إلى هدم المجتمع، والدولة العادلة، وكذلك منع التفكير في أي أصل من أصول الدين !! [49].
وبهذا تصبح حرية الفكر لدى الصلابي أشبه بمهمة السير بقدم واحدة على سلك قطره سنتيمترات معدودة معلّق في السماء ومهدد فيه بالسقوط في أي لحظة في بركة تماسيح التكفير والوصاية وتأويل النوايا التي مستعدة لنهش جسدك في أي لحظة.
إذن ماذا عن حرية التعبير، لحرية التعبير ضوابط طبعاً وقيود، منها ألا تصل حرية الرأي إلى نشر الكفر البواح، والإرتداد عن الدين، وتعطيل أحكام الشرع بأحكام الجاهلية ! ، لكنه بعد صفحتين أثنتين فقط يقول الصلابي أن من أفضل مظاهر الحرية في الإسلام هو "حرية الرأي في الدعوة إلى الله " ! ، حيث كانت تقام المناظرات بالحجة والبرهان !! [71].
أما حرية التعبير لغير المسلمين فيقول الصلابي إنها مكفولة، لكن سيكون عليهم نفس قيود الحريات التي على المسلمين[71]، وإن كنت لم أفهم هل يقصد الصلابي أنه ليس مسموح لهم أيضاً ـ كالمسلمين ـ الكفر والإرتداد عن دينهم ، أم لا.. ما داموا سيدخلون دين الإسلام !
ثم يأتي الصلابي لمسألة حرية الإعتقاد، وهي مسألة تشغله كثيراً، حيث أفرد لها الكثير من صفحات الكتاب، وقد بدأ هذا الفصل بقوله "يقف الإسلام بين الأديان والمذاهب والفلسفات شامخاً متميزاً في هذا المبدأ الذي قرر فيه حرية التدين، فهو يعلنها صريحة لا مواربة فيها ولا التواء، أن:" لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" [72].
جميل جداً ، لكنك تكتشف بعد إستمرارك في القراءة أن مصطلح "حرية الاعتقاد" في ذهن الصلابي مقصود بها "معاملة أصحاب الديانات الأخرى معاملة حسنة"، فتقرأ سرد تاريخي طويل معظمه يحكي كيف عامل الرسول والخلفاء والصحابة أهل الكتاب، بإعتبارهم النموذج التاريخي الغالب في الأدبيات الأسلامية، بل ويضيف أن من مقاصد الجهاد والغزوات الإسلامية هو التمكين لحرية المعتقد في الأرض !
لكن الصلابي بكل حال لم يغفل عن قول رأيه في الردة فقال :
"الخلاصة : عقوبة المرتد مقصورة على المسلمين، ولا تتناول غير المسلمين فتبقى لهم الحرية الدينية كاملة لا تمسّ، وأما المسلمون فقد التزموا بنظام الأمة أو المجتمع الإسلامي، فإذا ارتد الواحد منهم معناه أنه أضمر العداوة للنظام الإسلامي وحاول التشكيك بالإسلام نفسه، أو الاستهزاء بنظامه أو التلاعب بقضاياه الأساسية ومصادمة نظام الحق والعدل والفضيلة فيه، والإساءة لمفهوم الحرية، وإعلان الفساد في الأرض، فيكون عقابه في حال المجاهرة والتحدي والمحاربة حسما لظاهرة الفساد واستئصالا لمادة الفتنة والشر، وهذا المعنى يتفق مع الأنظمة الدستورية الاشتراكية والديمقراطية والقانونية في العالم حيث يكون المساس بنظام الدولة خيانة عظمى تستوجب العقاب، ولم يجرؤ أحد أن يقول: يعدّ هذا مساساً بالحرية الدينية، فإن حرية الاعتقاد مكفولة في الإسلام عملا بآية:" لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة، آية: 56)
ثم إن في تطبيق هذا العقاب مصلحة مؤكدة للإنسان نفسه حتى لا تفترسه الأهواء والشهوات، أو تعصف به التيارات الإلحادية، أو لصد محاولات الأعداء الرامية إلى النفوذ إلى قلب المجتمع وإثارة الفتن فيه أو النيل من وحدة الأمة، أو المساس بهيبة الدولة المسلمة" [99].
وهذا يعني أن عقوبة المرتد أصبحت تهمة جاهزة لكل من يتجرأ على المساس بالنظام الإسلامي، أو إنتقاده، أو الوقوف ضد أيدولوجيته، فهو كما قال الصلابي نظام الحق والعدل والفضيلة.
إذن بعد هذا السرد، كيف ينظر الصلابي للحرية الشخصية والفردية ؟!
"وقد أهتم الإسلام باستقلالية الفرد والحرية الفردية
وأن الفرد حر حرية حقيقية لأن محاسبته يوم القيامة على أعماله إن خيراً فخير وإن شراً فشر والآيات التي تدل على هذا كثيرة.
" لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر ".
" وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّار ".
" وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل ".
" إِن نَّشَ أْ نُنَزِّ لْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُ مْ لَهَا خَاضِعِينَ".
" فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ".
" فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ" )الرعد، آية: 40 .)[100]
هذا ما قاله الصلابي في مبحث الحريات الشخصية، لكنها عند الصلابي بالطبع لها شروط وأحكام !
يقول الصلابي مثلاً في بند حرية التنقّل، لابدّ من وضع بعض القيود على حرية المرأة في التنقل تكريماً لها وحماية لعرضها !
.. كما أن الإسلام يأبى أن تشيع الفاحشة، لذا يتم منع السفر إذا ترتب على حرية التنقل لبعض الأفراد الإضرار بأخلاق وآداب المسلمين للمصلحة العامة. [129].
وهو كما هو واضح باب وصاية كبير مفتوح لمنعك من السفر في أي وقت، بحجة أنك قد تخرج وترتكب أشياء توضع في بند الأفعال الغير أخلاقية أو المعاصي.
أما عن حرية النشر، فلا يمنع الإسلام هذه الحرية، بل يستحسنها ما دامت موجهة نحو الخير والنقد البنّاء الهادف وعلاج ظواهر الشذوذ ! [132].
إذن، لا يبدو فكر الصلابي في مسألة الحريات، وحرية التفكير والإعتقاد والحريات الفردية والشخصية فكراً بعيداً عن الفكر التقليدي للمدارس التقليدية، فهو لم يقدّم أي طرح جديد أو جرٍيء لتوسيع الهامش الضيق لهذه الحريات في المدرسة الإسلامية، بل أنه على العكس، مستمر في تدكين الخطوط الموضوعة سابقاً، والتأكيد عليها.
أحمد البخاري
للإستماع إلى البودكاست :
تحت الغلاف : قراءة في كتاب "الحريات من القرآن الكريم" لعلي الصلابي