الاستبصار في قطع الأدبار

1

قال الله تعالى ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. [الأنعام: 45].  

وتحقق ظلم القوم هو موجب قطع دابرهم. ومنه يتنبه إلى عاقبة الظلم كائنا ما كان ظلما، وكائنا من كان ظالما .

وإنما قلت بتحقق ظلمهم؛ لأنه قول الله تعالى ربنا الحق الرحمن ، وقول ربنا الرحمن في يقيننا – معاشر المسلمين صغيرنا وكبيرنا وصالحنا وما دون ذلك – صدق كله وحق كله!

كما وأنه حكاية لتاريخهم، وأنها جاءت على صيغة الفعل الماضي، مما يوجب تحقق الوقوع.

ومنه وجوب ترك الظلم ; لسوء عاقبته، وترتيب قطع دابر الظالم عليه، وهو من  العذاب الدائم الأليم، الموجب للانتهاء عنه، عمومه وخصوصه, قليله وكثيره، دقيقه وجليله. 

بيد أن النظم الكريم يوحي أن قطع الدابر كان واقعا على القوم الذين وقع منهم الظلم، وهو ما يتوافق مع سننه تعالى الجارية من المسؤولية الشخصية عن الفعل.

قال الله تعالى ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾. [فاطر:18].

وقال تعالى ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾. [الزلزلة:7].

وموجب قطع دابرهم هو أنكي أخذا، وأشد إيلاما، ذلك أن اجتماع قوم بأكملهم على الظلم يشير إلى أن قيما قد محيت من قاموس حياتهم، كما أنه دليل على أن آدابا سيئة قد سطرت في تاريخهم، وعلى أن خروجا عن المنهج قد حفظ في صحائفهم.

فإن قيل: ومن أين لك نصا يفيد أنهم بأجمعهم قد حادوا؟!

وأقول: من قوله تعالى ﴿الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.[الأنعام: 45]. لما يوحي به ظاهر النص من تمالؤ القوم على الظلم، واجتماعهم على العدوان!

وهي رسالة أخرى ليس إلى ظالم وحده، وإنما إلى عموم الظالمين، فإنه إذا اجتمع فصيل أو قوم أو فئة أو هيئة أو منظمة... ، على الظلم والإثم والعدوان، فإنما ها هي سنته تعالى تلاحقهم أخذا واستئصالا وقطع دابر ونكالا!

ومجيء الاسم الموصول، دلالة على عظيم اهتمام الله تعالى بشأن الظلم والظالمين، لما يمثله من اعتداء على حقوق الأغيار، فضلا عن الاعتداء على سلطانه تعالى، الذي يجب أن يفرد بالأمر وحده، كما أنه سبحانه قد تفرد بالخلق والإيجاد.

وقول بغير ذلكم هو الظلم بعينه.

قال الله تعالى ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾. [الأعراف:54].

وقال تعالى أيضا ﴿أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾. [الأنعام: 62].

كما أن النظم يوحي أيضا بأن القوم قد استدبروا النبيل من الشيم، وأنهم قد تنكبوا الجميل من القيم. وأنهم قد استدبروا كل خبيئة من خير تكون سببا لحجاجهم، وسبحان العليم الخبير الذي يأخذ حين يأخذ، والقوم هذا حالهم، كيما لايتذرع قائلهم بأنه قد بقيت فيهم بقية من خير، أو أنه يمكن إقلاعهم عن شر! 

ومجتمع هذا شأنه قد أغرقته الشهوات، ضالع في المهلكات، ما ظنك به إلا أن الأرض تئن من ظلمه، وإلا أن السماء لتئط من غيه، وكان حينئذ أخذه تطهيرا للكون من رجسه، وتنقية للفضاء من أثره، ذلك لأن رائحته زاكمة، وذلك لأن آثاره مؤلمة، فينخر في الأرض سوسا، ويعيث فيها فسادا.

وقوم هذا شأنهم، قد جاء في الذكر المبين بيان لأمثالهم، وقد نُصَّ في التبيان الحكيم ذكرٌ لشنيع فعلهم.

قال الله تعالى﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ۞ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. [المائدة: 79].

وهذا بيان عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، يفسر به النظم الحكيم سالف الذكر:

قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يزيد ، حدثنا شريك بن عبد الله ، عن علي بن بذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي ، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم - قال يزيد : وأحسبه قال : وأسواقهم - وواكلوهم وشاربوهم . فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال : " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " . [مسند الامام أحمد، مجلد أول: حديث رقم 3173، ص:574].

فدل على أنه ليس شرطا أن يكون موجب العقاب هو الوقوع في الذنب، وإنما يكون ملاحقا لمن جالس أو واكل أو شارب المذنب الذي قد اقترف الإثم، فكلاهما في الجزاء سواء. فتأمل!

وليس يقال إن ذلك إجحاف أو قريب منه، إذ ما ذنب جليس أو شريب أو مواكل وهو إذ لم يقترف الذنب صراحة ؟ !

وأسارع لأقول : إن ذلك من موجبات تطهير المجتمع المسلم كيما يكون إيجابيا على كل أحواله، وكيما يكون طاهرا في كل شؤونه، ومتطهرا في سائر مكوناته.

علاوة على أنه شحذ للآمرين أن يقوموا بدورهم المنوط بهم من جانب، ومن جانب آخر كيما لاتتحول العلائق من كونها مادة للتواصي بالحق، إلى كونها مادة للاجتماع المخذول، وللتعاون على الإثم والعدوان.

وإن أمة إمامها قول ربها ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. [المائدة:2]. لا يمكن إلا يكون هذا الجزاء نصب أعينها، كيما يأخذ كل على يد أخيه فترقى أمتنا، وتسمو جماعتنا.

علاوة أيضا على أنه إذا قام مؤهل بواجب الأمر والنهي على وجهه وبشرطه، فإنه والحال كذلكم ليس مؤاخذا، شرط أن يزول عن المنكر حال كونه لم يستطع تغييره، غير ذي عذر من إكراه، أو ضرورة معتبرة في الشرع، كيما لا يحرق بنار جليس السوء، والله المستعان.

ومؤاخذة أولاء كمؤاخذة هؤلاء - وليس يبعد أن يكون فيهم الصالحون - على القياس مما حدث مع بني إسرائيل، بنص الآية وبتفسير الحديث لها.