Image title
الديجـــافــو والفِرَاسَةُبقلم الأديب المصــرىد. طـــارق رضــــوان جمعة عقـــــل

"إنتظر!أنا مررت بهذا الموقف من قبل"

تتردد هذه الجملة في رأسك أحيانًا عندما تمر بموقف شعرت أنك مررت به من قبل فيما يُعرف بالديجافو. ظاهرة (ديجا فو) هي جملة فرنسية تُعني (شوهد من قبل).ٍ لا يوجد لها تفسير قاطع ومؤكد لكن من التفسيرات الشهيرة هو أن الدماغ يحاول تطبيق ذكرى سابقة من موقف سابق على موقف حالي لكنه يفشل مما يشعرك أنه حدث من قبل. هذا الخطأ له عدة محفزات، مثل تشابه البدايات بين الموقفين أو تشابه العواطف وغيرها من التشابهات التي تُوقع الدماغ في الديجافو. أيضًا تمت أبحاث على بعض المصابين بالأضطرابات العصبية والذين يعانون من هذه الظاهرة أكثر من غيرهم واتضح أنه أثناء حدوث الديجافو تحدث نوبة في الفص الصدغي (الجزء المسؤول في الدماغ عن الإدراك الحسي) وأثناء هذه النوبة يحدث إختلال في الخلايا العصبية مما يتسبب في حدوث رسائل مختلطة لأجزاء الجسم مما يسبب هذه الظاهرة للمرضى.


هنالك ما يمكن أن يطلق عليه الإدراك الحسي الخارج عن نطاق الحواس وأول من تناول دراسة هذه الظاهرة هو العالم الألماني رودلف تستشنر، وأطلق عليها مصطلح E.S.P المنسوب مجازًا إلى الحاسة السادسة التي تشمل: الاستبصار، التخاطر، قراءة الأفكار، الاستشفاف، التنبؤ... إلخ. ومن هذا الباب ما حصل لعمر -رضوان الله عليه- حين كان يخطب الجمعة وكان قد أرسل جيشا للعراق بقيادة سارية، فأري عمر أن هذا الجيش حوصر فنادى عمر وهو على المنبر: يا سارية الجبل الجبل، فسمع سارية ذلك الهاتف فانحاز إلى الجبل فنصرهم الله سبحانه، فلما نزل عمر من المنبر ذكر له ذلك الكلام فقال: لم أشعر به، ولما وصل سارية سئل عن ذلك فقال: حاصرنا العدو وكدنا نهزم فسمعنا صوت عمر يقول يا سارية الجبل فلما انحزنا إلى الجبل نصرنا الله سبحانه، وقد قال العلامة الألباني -رحمه الله- عند شرحه لقول عمر: (ياسارية الجبل)، ومما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما كان إلهاما من الله تعالى لعمر وليس ذلك بغريب عنه، فأنه " محدث ".

الفراسة   عرفها  الحكماء بمعنيين  أحدهما: ما دل ظاهر الحديث عليه، وهو ما يوقعه اللَّـه تعالى في قلوب أوليائه ؛ فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الظن، والحدس. والثاني: نوع يعلم بالدلائل، والتجارب، والخَلْق، والأخلاق، فتعرف به أحوال الناس، وللناس فيه تآليف قديمة وحديثة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّـه» ، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ.

وبالإغريقية الفراسة تعني الفزيوجنومية (يونانية وتعني الجسم وتعني معرفة) وبذلك يكون معنى الكلمة معرفة الجسم وهو اسم لمجال شبه علمي أو فن قراءة وإستخلاص مكونات الشخصية بمجرد دراسة المظهر الخارجي للجسم وخاصة الوجه.

لقد جعل الله تعالى للجن قدرة على التشكل فيتشكل بصورة إنسان أو حيوان فيراه الإنسان لكنه لا يعلم أن ذلك جني فقد ثبت في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه أتاه الجني بصورة إنسان يسرق من الصدقة فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- أتَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ : لا . قَالَ : ( ذَاكَ شَيْطَانٌ) وثبت أنه جاء لقريش بصورة سراقة بن مالك وبهذا يتبين أن معنى قوله سبحانه: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) مخصوص بما إذا كان على صورته التي خلق عليها.

والفراسة ثلاثة أنواع:
إيمانية : … وسببها نور يقذفه اللَّـه في قلب عبده، يفرق به بين الحق والباطل،… والصادق والكاذب. وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، ينفي ما يضاده، يثب على القلب وُثـُوبَ الأسد على الفريسة،… وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانا، فهو أَحَدُّ فراسة. وقال ابن مسعود – رضي الله عنه- أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف، حيث قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } ، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْـرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.وامرأة فرعون، حين قالت: {قُرَّتُ عَيْـنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا.

وكان الصديق – رضي الله عنه- أعظم الأمة فراسة، وبعده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- ووقائع فراسته مشهورة، فإنه ما قال لشيء: (أظنه كذا) ، إلا كان كما قال، ويكفي في فراسته موافقتُه رَبَّه في المواضع المعروفة…(و قوله لابنه حين رشح له بنت بائعه اللبن”تزوجها والله ليوشكن أن تأتي بفارس يسود العرب” فانجبت عمر بن عبد العزيز).

وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه، وأذنه، وقلبه. فعينُه للسيماء والعلامات. وأذُنه للكلام، وتصريحه وتعريضه، ومنطوقه ومفهومه، وفحواه وإشارته، ولحنه وإيمائه، ونحو ذلك. و قلبُه للعبور والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه، فيَعْبُر إلى ما وراء ظاهره.


وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة و النور، اللَّذَيْنِ يهبهما اللَّـه لمن يشاء من عباده ؛ فيحيا القلب بذلك، ويستنير؛ فلا تكاد فراسته تخطئ. قال اللَّـه تعالى:(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّـلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.)

الفراسة الثانية: فراسة الرياضة، والجوع، والسهر، والتخلي. فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بِحَسَبِ تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر.

الفراسة الثالثة : الفراسة الـخَلْقية، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخَلْق على الخُلُق؛ كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره، وبسعة الصدر، وبُعْد ما بين جانبيه على سعة خُلق صاحبه، واحتماله، وبسطته، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها، وضعف حرارة قلبه، وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة -وهو الشَّكَل- على شجاعته، وإقدامه، وفطنته، وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته، ومكره، وخداعه. ومعظم تعلق الفراسة بالعين ؛ فإنها مرآة القلب، وعنوان ما فيه

وللفراسة سببان:

أحدهــما: جودة ذهن المتفرس، وحِدَّةُ قلبه، وحسن فطنته.

والثــــاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرَّس فيه. فإذا اجتمع السببان، لم تكد تخطئ للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر كانت فراسته بَيْنَ بَيْنَ.

وأخيراً  فمن أراد  أن يصل    لمنزلة عالية بالفراسة الروحانية فعليه  كف نفسه عن الشهوات، وغض بصره عن المحارم، وأن  يعتاد أكل الحلال ،   وحينها لن تُخطئ له فراسة. وثق صلتك بالله تعالى واجتهد في تقوية إيمانك من خلال كثرة العمل الصالح وخاصة تلاوة القرآن الكريم وصيام ما تيسر من الأيام الفاضلة وحافظ على أذكار اليوم والليلة.