إن السمة الغالبة على العصر هي أن الأجيال باتت تعيش مستقلة عن بعضها، في عصر تناسى حقوق المسنين واختزلها في يوم واحد هو يوم المسن العالمي (الأول من أكتوبر من كل عام).
كانت الشيوخ قديماً تحظى بمكانة إعتبارية مميزة. أما اليوم، فالناس يُنكرون أعمارهم مخافة أن يُبتعد عنهم. لقد كانت العائلة الممتدة قديماً مؤنساً للشيخ، بل إنه مدبر شؤونها إلى آخر يوم في حياته. أما اليوم، فالطب يحاول أن يلعب دور العائلة، دون أن يكون هو الآخر قادرا على نفي حقيقة الشيخوخة ومن ثمة الموت.
"إن للحياة وجها مأساويا لا فكاك منه، وهو أننا نتقدم في العمر منذ ولادتنا"، وهذا ما أوضحه .( أتول غواندي Atul Gawande). إننا باختصار مخلوقات تشيخ وتموت، والطب يقف مكتوف الأيدي أمام هذه الحقيقة المطلقة.
اليوم نلمس موضوعاً واقعياً، فلا تعتبره شىء تشائمى لأن أمامك فرصة ما زالت سانحه تغتنم فيها ما يمكنك إغتنامه . غنيمتك هذه ستعتمد فيها على ذاتك فقط دون مساعدة رفيق دربك، أولادك ، صديقك أو حتى طبيبك المعالج. فقط أنت صانع سعادتك فى كهولتك.
أتول غواندي Atul Gawande، طبيب جراح، وأستاذ بكلية الطب بهارفرد، وله مؤلفات طبية فلسفية مثل كتابه "لأنَّ الإنسان فانٍ.. الطبّ وما له قيمة فى نهاية المطاف". الكتاب صدر عن المجلس الوطنى للثقافة والفنون – الكويت، وترجمه عبد اللطيف الخياط.
ويقول الكتاب: "لقد عبر الطب الحديث عن أخطار الولادة وإصابات الحوادث والأمراض المعدية من كونها أحداثا عسيرة إلى أحداث تقع ضمن سيطرة الطب ولكن حينما يأتى الأمر إلى الحقائق التى تتمثل فى الشيخوخة والموت، وهى حقائق لا مفر لأحد منها، فإن ما يفعله الطب حيال هذه الأحداث هو عكس ما هو مطلوب منه".
الكتاب لغته بسيطة، لأنه أشبه بسيرة مهنية للمؤلف، حيث يستخلص، بوصفه طبيبا، عبرا متعلقة بأسئلة شبه فلسفية، من قبيل: الموت، الشيخوخة، المرض، العلاقات الأسرية...إلخ.
المرء في حاجة إلى من يساعده على تناول الأكل، وارتداء الثياب والاغتسال...إلخ. ومن هنا ظهرت الحاجه إلى دور المسنين. لكن ما يرعب الشيوخ ليس هو الموت نفسه، وإنما هو ما يحدث قبل الموت. فالواقع الغربي- ويُقلده المجتمع العربى أحياناً- يحكمه منطق التخلي عن المسن، وإيداعه دور المسنين. الأخطر من ذلك، هو أن دور المسنين وأقسام المستشفيات التي تتكلف بهذه المهمة لم توجد من أجل المسنين أنفسهم، بل وجدت من أجل أبنائهم، كما أن الربح لديهم يتحقق بموت المسن، وربح سرير إضافي.
لكن كيف رأى الباحثون والمثقفون دور المسنين؟
إن واقع هذه الدور ما هو إلا تجارة مربحة فالإهتمام بالإبن وليس الأب لهدف ربحى : فالتفكك الأسري الذي قاد إلى ظهور هذه الدور، لا يجعلها تعوض الدفء الأسري؛ فمن الثابت أن وجود الشيوخ داخلها لا يزيدهم إلا إحساسا بالاقتراب من النهاية، وهكذا فذهنية الشيوخ يطغى عليها نوع من التشابه بين هذه الدور والسجون، كما أن القائمين بها يهتمون بالنزيل من حيث هو جسد، لا من حيث هو روح وإنسان، مهمتهم أن يأكل ويشرب، ويلبس، لكن أين دفء الأسرة!؟
فالنزيل هنا ليس غاية وإنما هو مجرد وسيلة من أجل جني المال، والدليل على طابعها اللاإنساني هو أن المسن ليس هو من يقرر الذهاب إليها. إنها قائمة أساساً على الجبر والإستقطاب القهري من خلال إغراء الأبناء في ظل مجتمع فرداني متفكك أسريا. إن العائلة الممتدة هي المنقذ الوحيد من هذا الوضع، ولكن للأسف قضينا عليها.
يؤكد (أتول) أن القوانين الصارمة والرتيبة المعمول بها في دور المسنين، غايتها تسهيل مهام القائمين على هذه الدور وفق نمط إعتيادي. ومن الرائع بهذا الفصل من ا لكتاب هو محاولة إيجاد حل لإعادة تأهيل دور المسنين: من الضروري أن يقدم الطب بديلا لدفء العائلة المتفككة، بأن يركز على الروح أكثر من الجسد. علينا أن نجعل حياة نزلاء دور المسنين أفضل، بأن نترك لهم حرية التخطيط ليومهم، وبإدخال بعض العناصر الحياتية على نمط عيشهم، كالحيوانات الأليفة والنباتات، لكي تكسر الحاجز الواقع بين المصحة والبيت. وهنا تحضرني التجربة الفريدة في دمج دور الأطفال المتخلى عنهم بدور المسنين، حيث يقدم الحل نفسه كدمج لما كان يعتبر مشكلتين مختلفتين، يرعى المسنون الأطفال، وفي نفس الوقت ندخل البهجة والسرور إلى نفوسهم. إن الطب يتحرك في حدود ضيقة جدا، بإهماله لحياة الروح، والتركيز على حياة أعضاء الجسد حسب التخصصات الطبية. إن الموت حاصل لا مفر، وما يمكن تقديمه حقيقة ينبغي أن يتوجه صوب الروح لا صوب الجسد. ويرى المؤلف أن الإهتمام الطبي الزائد بالمسن يشعره حسب أتول بأنه يقترب من النهاية، وربما يكون العلاج في التخلي.
وفى الخاتمة ، بدأ أتول هذا الفصل الأخير باستحضار السؤال المحوري لمحاورة لاخيس Laches، لصاحبها أفلاطون Platon؛ أي سؤال ما الشجاعة؟ لكن هذه المرة ليس بالانطلاق من واقع الجنود، بل بالانطلاق من واقع المرضى والمسنين، وانتهى أتول إلى القول إنها الجرأة على مواجهة حقيقة الموت، ثم الجرأة على التصرف والفعل، رغم هذه الحقيقة المكتشفة، إنها صبر وتكيف.
هنا قد تكون تجربة الموت الرحيم أو الموت بكرامة؛ أي الموت الذي يتم برعاية الأطباء وبمساعدة منهم، شكلا من أشكال الجبن وليست الشجاعة مثلما يُعتقد؛ فالشجاعة هي فن الفعل الحكيم المفعم بالأمل، والطب بذلك قد يقتل الأمل. ويختتم كتابه قائلاً: " لقد أخطأنا في تحديد طبيعة عملنا بوصفنا أطباء، فقد اعتقدنا أن عملنا هو أن نضمن صحة الناس وبقاء حياتهم. غير أن مهمتنا في الواقع أكبر من ذلك بكثير. إنها تمكين الناس من الحياة السعيدة."
وجاء المؤلف الدكتور علي بن إبراهيم الزهراني في كتابه (أساليب التعامل مع كبار السن، رؤية تربوية تأهيلية) ليعيد الأمور إلى نصابها باعتماده على المنهج الإسلامي في البحث وفق النصوص ، بعد أن فشلت الحضارة الغربية في حل هذه المشكلة والتعامل معها من منطلق اجتماعي وتربوي. مشيراً إلى أن هناك متطلبات نفسية واجتماعية تقع على عاتق المحيطين بالمسن لتلبيتها ومساعدته في الخروج من أية حالات اكتئاب أو تقلب مزاجي أو انطوائية قد يمر بها.
إن منهج الباحث في هذا الجهد العلمي يتمثل في أهمية إعطاء المسن حقوقه الواجبة على كل فرد في المجتمع والدولة، دون أن يكون ذلك بدافع الصدقة والإحسان والشفقة، لذلك جاء الفصل الثالث ليوضح حقوق المسنين في التربية الإسلامية سواء من حيث التخفيف في العبادات ورفع الحرج، أو حقه في التعامل معه والرفق به وتوقيره وتقديمه على غيره، إضافة إلى حمايته من الأخطار وإشباع حاجاته.
وقد توصل الباحث في خاتمة الكتاب إلى مجموعة من النتائج المفيدة والبناءة والتي أهمها ضرورة العناية بالمسنين واحترام كرامتهم وإكرامهم في مراحلهم الحياتية المختلفة، وأهمية المسن في نقل الثقافة والقيم الصالحة وحاجته إلى التعامل الأسري الدافئ الذي يشعره بالمحبة والعرفان وحسن الصنيع من الأسرة، وأسبقية المنهج الإسلامي في العناية بحقوق المسنين وأن هذه العناية من مظاهر التحضر والرقي الإنساني، وضرورة تربية النشء على احترام المسنين وآرائهم، وبناء على ذلك قدم الباحث مجموعة من التوصيات التي تبين النظرة المستقبلية لرعاية المسنين والعناية بهم في ضوء تعاليم الإسلام والتي من أهمها:
• عقد المؤتمرات والندوات في شتى مناشط المجتمع لبحث قضايا المسنين.
• ضرورة الاستفادة من كبار السن على اختلاف تخصصاتهم.
•ضرورة توعية المسنين بحقوقهم.
• إقامة الدورات المتنوعة لتدريب المسنين على المهارات اللازمة في مواجهة مشكلاتهم، والتأكيد على دور الأسرة في رعاية المسنين وفقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام.
وهكذا الحياة قست على بعض الفنانين لتنتهي بهم إلى دار للمسنين قبل وفاتهم، لتضيع من ذاكرتهم حلاوة النجاح وتبقى مرارة الأيام.ومنهم على سبيل المثال:
الفنان عبدالعزيز مكيوي رحل 18 من شهر يناير عام 2015 داخل دار لرعاية المسنين بمصر الجديدة. والفنانة السورية هالة شوكت، أول فنانة سورية تدخل مصر كممثلة وسيدة مجتمع وليس كمطربة، هالة شوكت عاشت الفترة الأخيرة من حياتها في دار السعادة للمسنين. هالة شوكت واحدة من جميلات سوريا، وحصلت على لقب ملكة جمال سوريا عام 1967، وقدمت عدد من الأفلام بلبنان ومصر والجزائر. والفنان العالمي الراحل عمر الشريف رحل داخل مصحة لكبار السن، وذلك بعد أن تنقل بين الفنادق لسنوات طويلة.