نقصد بالجماعة في المعنى المتعارف عليه: اللفيف من القوم، وإن اختلفوا جنسيا وحرفيا وعلى أي نحو كان اجتماعهم.
في بعض الظروف تتولد من المجموع صفات تخالف ما عليه الأفراد المكونين لهذا المجموع، حيث تختفي الذات الشاعرة وتتوجه مشاعر جميع الأفراد نحو صوب واحد هي الجماعة.
ومما تقدم يتضح لنا أن مجرد التقاء مجموعة من الأفراد كثيرين لا يكسبهم صفة الجماعة كما وصفنا بل ينبغي توفر بعض الصفات الجماعية المشتركة والتي سيتم توضيحها خلال المقال.
كما أشرنا سابقا، فمن أن أهم الصفات التي تكون تباعا فكرة المجموع ( اختفاء الذات وتوجيه المشاعر نحو كيان واحد ) يظهر لنا أنه لا يلزم أبدا وجود الأفراد في مكان واحد، بل قد تتوفر الصفات الجماعية النفسية لآلاف الأشخاص وهم متفرقون، إذا تأثرت نفوسهم بحادث جلل، أو يحملوا مشتركا فكريا معينا يجعلهم قادرين على الإشتراك في وجهات النظر، بمعنى أنه قد تصير هناك أمة جماعية دون أن يكون هناك اجتماع واضح في المكان بشرط أن يقع عليها تأثير ظاهر ومشترك.
ومن الجدير الإشارة إلى صعوبة تحليل القواعد أو الصفات المشتركة للجماعات كون الأمر في أصله يزداد صعوبة إذا حاولت دراسة الفرد، لما في عوامل تنشئته من تداخل وتأثيرات أعقد من عملية بسطها وتحليلها، ولكن الأمر محض اجتهاد يحمل من الصواب ما يساوي الخطأ.
ولهذا كانت محاولة الاجتهاد وابتغاء الوصول لنتائج عملية وواقعية، حاولنا دراسة الجماعات بعد وصولها لنتائج نهائية بمعنى دراسة نموذج تشكّل وتفاعل مع الواقع وحصلت له نتائج واقعية وتفكك أفراده لحالتهم الطبيعية، حتى يصبح الأمر أقرب للواقعية.
وأهم ما تمتاز به الجماعة:
وجود روح عامة تجعل جميع أفرادها يشعرون ويفكرون ويعملون بكيفية تخالف تمام المخالفة الطريقة التي يفكر ويشعر ويعمل كل واحد منهم على انفراده، وعلّة ذلك مجرد انضمامهم إلى بعضهم البعض وصيرورتهم جماعة واحدة.
ولهذه الصفة تميّز فعّال في أرض الواقع حيث يوجد من الأفكار والمشاعر ما لا يتولد أو يتحوّل من عالم القوة والفكر إلى عالم الفعل والحركة إلا عند الفرد في الجماعة، والسبب وراء ذلك يرجع إلى كون المجموع حالة عارضة تتألف من مجموعة عناصر تشبه خلية الجسم، حيث أنها عندما تصبح منفردة يكون لها خصائص تختلف تماما لو أصبحت في تركيب عضوي متجانس ومتناسق.
من وجهة نظر غوستاڤ لوبون في كتابه سيكولوجيا الجماهير حيث يذكر أثر الحالة اللا شعورية الفردية في الجماعات وكونها عامل مؤثر يؤدي إلى غياب الشعور ويظهر اللاشعور في سلوك الأفراد، يقول ما نصّه: ( النص
) ولهذا يتضح لنا السبب أو أحد الأسباب التي تجعل التكتّلات الكبيرة عاجزة عن التعامل مع الإشكالات التي تحتاج تفكير عميق لفقدها عنصر الوعي الشعوري.
لكن لنسأل أنفسنا الأسئلة المهمة، لو كان كل فرد في الجماعات لا ينضم أو يأتي إلا حسب اشتراكه مع المجموع في صفات معينة، لكانت النتيجة شكل معين من الصفات التي لا تتجدد، فكيف تظهر ردات فعل مختلفة وصفات جديدة في نفس الكيانات؟
هناك عدّة أسباب نحاول التفصيل فيها بقدر المستطاع وهي ليست قاطعة لكنها تساعد في تفسير الحالة:
١) السبب الأول: هو أن الفرد يكتسب من وجوده في المجموع قدرة على الاسترسال في أفعاله، وتشجّعه قوة الجماعة عما كان يحجم عنه عندما كان منفردا، ثم هو لا يكبح جماح نفسه لأن الجماعة لا تسأل عن أفعالها لشيوعها بين جميع الأفراد، فلا يشعر للواحد منهم بما قد يجره العمل عليه من تبعات، وهذا الشعور هو الزاجر للنفوس عما لا ينبغي.
٢) السبب الثاني: العدوى؛ والعدوى من الظواهر التي يسهل بيانها ولكنها ليست مما يتيسّر تعليله، تشبه الطبيعة المغناطيسية للأشياء، حيث أن كل شعور وكل عمل يحصل في الجماعة فهو معد إلى حد أن الفرد يضحي بمصلحته الذاتية لمصلحة الجماعة، وهذه قابلية مخالفة جدا لطبيعة الإنسان، فهو لا يقدر عليها خارج الجماعة إلا نادرا.
٣) السبب الثالث: القابلية للتأثر وهي فرع عن صفة العدوى السابقة، ولتوضيح هذا السبب ضمن فئة معينة من الناس لها طابع معين من العمل اليومي + روتين يومي من الاستيقاظ والنوم، انظر للحالة التي سيصبح عليها الفرد بعد مرور مدة طويلة معهم كيف سيكتسب صفات معينة وتأطير لحياته بشكل يشبه بشكل كبير ما هم عليه حتى وإن كان منافيا لبعض صفاته الشخصية.
أما الناس أصحاب الشخصيات القوية وهذا خارج المثال السابق ( حديثي بشكل أعم ) سيكون أقصى ما يفعلونه هو تحويل الإندفاع الصادر من المجموع إلى آخر أقل خطرا وليس إيقافهم بشكل كامل.
وبالجملة فمعظم الكيانات والمجموعات السلطوية تتعامل مع الإنسان كحبة رمل تثيرها الريح ما هبّت.
ختاما: فقدرة الجماعات الغير فاعلة بشكل واقعي والمثبطة لأفراد يكون مجموع إدراكها أضعف من مستوى أفرادها متفرقين، ولكنها من جهة المشاعر والأعمال الناتجة عنها تكون في أفضل حال حسب قدرة الأفراد القادة، فإذا صح أن الجماعة شريرة في بعض الأوقات فالصحيح أنها شجاعة في أوقات كثيرة أيضا.