" لابد لكل إنسان من أن يجد ولو مكانا يذهب إليه ، لأن الإنسان تمر به لحظات لا مناص له فيها من الذهاب إلى مكان ما ، إلى أي مكان..!! هل تدرك يا سيدي الكريم ، هل تدرك ما معنى ألا يكون للإنسان مكان يذهب إليه ؟!

هذا الكالم و هذا السؤال المؤلم قد ورد على لسان ( مارميالدوف ) السكير الذى قابله ( راسكولينكوف ) بطل روايه ( دوستويفسكي ) الخالده ( الجريمه والعقاب ..)تمتاز كلمات ( دوستويفسكي ) بأنها صالحه أن نسقطها على أى موقف فى

حياتنا بل أستيطع انا شخصيًا أن أضعها عنوانًا يلخص حياة هذا الرجل.. " هل تدرك ما معنى ألا يكون للإنسان مكان يذهب إليه ؟ "

لم يقصد ( دوستويفسكي ) مكانًا جفرافيًا بالتأكيد ولكنه كان يقصد مكانًا فى قلب أحدهم..شخصا ما يكون الملجأ..شخص ينجح فى احتواء كل ما تمر به ، ولكن هل عدم وجود ذلك الشخص مؤلم ؟! هل يهم كثيرًا ؟..!أظن بأن الجواب نعم.. أتعلم أن ذلك الكلام الذى قاله ( مارميالدوف ) كان فى الحانه اى أن البوح وخروج الكلام من القلب يكون للغرباء وليس لعائله ( مارميالدوف ) البائسه أصلاً ، هل تعرف كيف يكون شعورك حين تجد أن أهل بيتك وعائلتك أقل الناس فهمًا لمشاعرك ؟!!

تجد ثلاثمائه رقم فى هاتفك ولكن لم تجرؤ قط على الاتصال بأحدهم واختياره لتبكى له او تبوح له بمشاعرك..

أتدرى ؟! هناك قصه شهيره للكاتب ( أنطون تشيخوف ) اسمها ( لمن أشكو كآبتى ؟! ) تتحدث على أنه لا يوجد شخصا يشفق عليه"..!

لابد لكل إنسان من أن يجد أي شخص فى مكان ما على الأقل يريد أن يسمعك..لكن لا أحد يهمه ما تقول

ك ( ايونا ) سائق العربه بطل القصه..حين أراد ان يثير انتباه الركاب بموت ابنه فأخذ يردد لكل راكب

"أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع.. ابني مات .

- ممم..! مات إذن ؟

يستدير ( ايونا ) بجسده كله نحو الراكب ويقول:

- نعم.. يبدو أنها الحمى..رقد في المستشفى ثلاثةأيام ومات.. مشيئة الله..

ليقول الراكب : هيا ؛ هيا سر ، بهذه الطريقة لن نصل ولا حتى غدا..عَجّل !!

ليركب معه راكب أخر ويقول له : هل تعلم يا سيدى أن ابنى مات..هذا االسبوع.. ليجد الرجل لا يهمه الأمر أكثر من تلك الروبيه التى سيدفعها له..

وفى نهاية القصه.. يقول ايونا لنفسه : فلأذهب لأتفقد الفرس وفيما بعد سأشبع نوماً .. يرتدي الملابس ويذهب إلى الاصطبل حيث تقف الفرس ويفكر في الشعير والدريس و الجو فعندما يكون وحده لا يستطيع أن يفكر في ابنه يستطيع أن يتحدث عنه مع

أحد ، وأما أن يفكر فيه ويرسم لنفسه صورته فهو شيء رهيب لا يطاق..

ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقتان

- تمضغين؟ حسنا امضغي أمضغي .. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس...نعم أنا كبرت على القيادة ، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا ، كان حوذيًا أصيلاً لو أنه فقط عاش.

ويصمت ايونا بعض الوقت ثم يواصل :

- هكذا يا أخي الفرس ، لم يعد ( كوزما أيونيتش )

- ابنه - موجودا... رحل عنا....فجأة .. خسارة.. فلنفرض مثلاً أن عندك مهرا وأنت أم لهذا المهر... ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفا؟. وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج ايونا فيحكي لها كل شيء"

لا يوجد شخص يهمه أمرك ، لا يوجد شخص تستطيع البوح له بمشاعرك ، كذلك كانت هذه حاله الرجل العجوز المحامى فى القانون الجنائى ( خالد عبد التواب ) عانى ذلك الرجل كثيرًا فى حياته حتى قسى هو نفسهُ عل نفسه، خلق شخصية أخرى لنفسه ليعذبها..لا يوجد علاج لمثل هذة الحالات سوى الموت ، فالموت خير عالج..

أغلقت المذكره حين سمعت صوت الشيخ ( إبراهيم ) يعلن عن إنبثاق أول خيط من النهار بأذان الفجر.. توضئت ونزلت لأصلى ثم ذهبت الى العمل لأقضى باقى أيام عمرى بين المرضى النفسيين وأنا واحد منهم..