Image title
" حاسب وانت ماشي "بقلـــم الأديــب المصـــرىد. طــــارق رضــــوان

تُرى  بقلم  الأحزان  أم بقلم السعادة سأكتب مقالى هذا؟!  فحياتنا   تتأرجح   بين المسّرات   والمُنَغِصات.  ونحن  بين  كاره  لها أومُقبل عليها...   فهى  نار لأحدنا ،وجنة للأخر. ونحيا بين  من يُنكر جِراحه، مُتأمر على نفسه  لكى   يحاول  أن  يتناسى ويتعايش  مع واقع  يؤلمه...  بين  من    لا  يجد   للفرح    عنواناً، ولا للصدق  مكاناً.  ولكن هناك فكرة واحدة مشتركة بين الجميع،  رغم الإختلاف والتباين، حول الموت، وهي أن هناك بعثاً بعد الموت، وأن هناك حساباً، وأنّ جميع البشر ستوضع أعمالهم في الميزان. ولذا  يقول  إبراهيم المنذر:

 

أيّها التائهون في الظلمات

 أيها الغارقون في الشّهوات

 أيّها الناس ما ترجون في

العالم بعد الحروب والنكبات

كما تعجب المعري من القبور حولنا  التى  تملأ الساحات، فما بال القبور منذ الأزمنة الغابرة! وبالتالي فهو يطلب من الناس ألا تمشي في الأرض مرحاً، لأنها تسير فوق أجساد العباد ممن احتواهم التراب. وتصفُ قصيدة " غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي" أصل الوجود ومغازيه الظاهرة والخفيّة، وخلاصة فكر المعري في الموت والحياة، فالقصيدة كغرض شعريّ تصنّف في المراثي فقد كتبها المعري في رثاء الفقيه الحنفيّ أبي حمزة، وقد قال فيها طه حسين: "نعتقد أنّ العرب لم ينظّموا في جاهليتهم وإسلامهم، ولا في بداوتهم، وحضارتهم قصيدة تبلغ مبلغ هذه القصيدة في حسن الرثاء") في هذه القصيدة يصور الحياة مجرّدة بلا بهرجات، خالية من المعنى والعمق، والغريب أنّ تصويره هذا هو ما يعطي مظاهر الحياة والموت نفسها التي يصفها العمق والروح، إلا أنّها روح مثقلة بالخواء والفراغ واللاجدوى، ويعتمد الصدق في التعبير، فهو يقدّم خواطره وحكمته بجرأة وعمق ف يقول:

"خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

تعبٌ كلها الحياة، فما أعجب إلا من راغب في ازدياد."

عُرف أبو العلاء المعرى بشدة ذكائه وفرط ذاكرته وتوقّد خواطره. نظم الشعر وهو إبن إحدى عشرة سنة كما درس الأدب والتاريخ والفقه والأديان الإبراهيمية الثلاث والمجوسية والهندية والمذاهب المختلفة، صاغها فى أدبه وشعره ورسائله وأفكاره. عُدَّ فيلسوفا حكيما مفكرا ناقدا مجددا. كتب طه  حسين عن فلسفة المعرى. وقد دعاه البغداديون إليها، بعد أن ظلمه أمير حلب حتى كتب (والله يحسن جزاء البغداديين فقد وصفونى بما لا أستحق وعرضوا على أموالهم ودعونى إلى بلادهم). وجود المعري ببغداد كان سبباً في الكثير من الأحداث والمنازلات الأدبية والدينية والمذهبية والفلسفية والفكرية في جو المدينة المشحون أصلاً بشتى المدارس والنزعات الأدبية والعقائد الدينية والتيارات الفكرية. صادف يوم وصوله موت الشريف الطاهر والد الشريفين الرضى والمرتضى، وحصلت قصص ووقائع منها إنشاد الأشعار فى المتوفى شاعراً بعد آخر، حتى قام المعرى بقصيدته الرائعة ومطلعها أودى فليت الحادثات كفاف مال المسيف وعنبر المستاف وما أن سمع الشريفان ذلك، حتى هزت كيانيهما، فنزلا إليه إجلالا سائلين: (لعلك أبا العلاء المعرى)، قال (نعم(، فأكرماه وقدماه ورفعا مجلسه.

وأنتزع  منهم وهو الأعمى الإعتراف بقدراته التي تفوق قدرات المبصرين، فسمّوه منفردا (أعجوبة الدهر وفريد العصر) عشق المعرى بغداد وماءها، قائلاً: شربنا ماء دجلة خير ماء... وزرنا أشرف الشجر النخيلا .عُرضتْ عليه كتب بغداد من (مدينة العلم) و(بيت الحكمة) وكثير من خزائنها. فكان كما قال ابن الفضل (جعل المعرى لايُقرأ عليه كتاب إلا حفظ جميع ما يُقرأ عليه). حضر المعرى المجالس الكثيرة المتنوعة فى بغداد، فجالس الادباء وحاور الفلاسفة وأصحاب الملل والمذاهب ولم يكتف بالقراءة عنهم بل كان يذهب إليهم ويحاورهم مباشرة بتحدٍّ جرئ وحوار صريح وجدل علمى.

ومن أهمها (رسالة الغفران) وفيها يزور الجنة والنار ويسأل الشعراء الذين دخلوا الجنة. ثم يزور النار وشعراءها سائلاً عن سبب عدم الغفران لهم. ثم يناقش ابن القارح وآراءه لينقد بدع زمانه ومناقشتها. ثم رفضها ثم يأتى ليذكر أدباء ونقاد ليناقشهم مع سخرية وإستهزاء بأدب وفطنة. يذكر حواره مع محمد النبى وعلى ابن أبى طالب وفاطمة زوجته بنت النبى وحوار مع رضوان الملك خازن الجنة وفيها جميعا نقد وإبداع وفلسفة، وما أشبهه بدانتى أليغييرى الإيطالى فى (الكوميديا الإلهي) و(الجنة الضائعة) لجون ميلتون الإنكليزى فكل منهم قد زار الجنة وحاور الموتى كما لم يؤمنوا بأنَّ الجنةَ حكرٌ على فئة أو دين أو طائفة يأتى ديوانه اللزوميات وفيه مناقشة الأديان وفلسفتها ورفض الإحتكار للحقيقة قائلا: فى كل جيل أباطيل ملفقة فهل تفرّد يوما بالهدى جيل ومن نقده الدين جاعلا العقل هو المناط الحقيقى: إثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين، وآخر ديّن لاعقل له ومن تنكره للقيامة فى نظريته التشكيكية قوله: تحطمنا الأيام حتى كأننا زجاج ولكن لايعاد له سبك رفض الحج واعتبرة رحلة وثنية ورفض طقوسها: وقوم أتوا من أقاصى البلاد لرمى الحجار ولثم الحجر ورفضه الجن والملائكة: قد عشت عمرا ما علمت به حسّا يُحَسّ لِجِنّى ولا مَلَك فإنّما تلك أخبار ملفّقة لخدعة الغافل الحشوى حوشيتا ومناقشته نظريه الإمامة قائلا (لا إمام سوى العقل) ويبقى الجدل مستمرا عن مذهبه وعقيدته كما قال طه حسين فى متبه ومقالاته عن المعرى ثم كتب المعرى (فقرات وفترات) أو (فصول وغايات)، وهما من أكثر الكتب جدلا كمجموعة شعرية مماثلة لأسلوب القرآن السجعى.

المعرى  هو من أوصى  أن يكتب على قبره (هذا جناه أبى على وما جنيت على أحد) لتكون وصيته خالدة للأجيال مثيرة جدلا مستمرا كما أثاره فى حياته. المعرى  بصير  بين عميان تمايز عنهم بحكمة وفلسفة ونقد خرق الحجب وتجاوز المحرم وأباح الممنوع فوصل إلى معدن المعرفة وأساسها العقل وهو يقول (لا إمام سوى العقل).

ومن أصدق المراثي وأشهرها قصيدة أبي العلاء المعري (غير مجد) التي كانت رثاءً في أحد أخلص أصدقائه من علماء زمانه، ولقد كان مخلصاً في قوله صادقاً في رثائه لأنه لا يريد من ورائها نفعاً ولا يرجو رفعة، فهو زاهد في الدنيا معتزل للمجتمع، ولكن موت صديقه الفقيه فجّر في ذاته هذه المشاعر الانسانية، فكانت قصيدته هذه التي ضمّنها فلسفته ورؤيته للحياة من حوله، وقد استعرض تجربته الطويلة التي أطلقت على لسانه باقة من الحكم، عرفت عنه بحكم معايشته للأحداث التي مرت به مما جعل لهذه القصيدة صدى واسعا لأنها تعبر عن الحقيقة التي يجهلها كثيرون من الناس أو يتجاهلونها، ولأهميتها وما تحمله من عِبَر فقد ذاعت أبياتها في عصر المعري وما بعده من عصور ولا تزال تتردد أصداؤها في كل مناسبة حتى عصرنا هذا. ويصور الواقع الذي يعيشه بنو آدم ولكننا ننساه في غمرة انشغالنا بدنيانا:

وشبيه صوت النعي اذا قيس بصوت البشير في كل نادي

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض الا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قَدُم العهد هوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء رويداً لااختيالا على رفات العباد

ومضامين هذه القصيدة التي قدمها المعري لأمته بقصد الاعتبار واضحة الدلالة في مغزاها وافية الفكرة في مبناها، ليست لحاجة إلى مزيد شرح وفهم وإن كانت بحاجة إلى ادراك واعتبار.