قال الله تعالى﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ﴾.[الأنعام:44].
وفتح لأبواب كل شيء، يتخيله عقل، أو يغيب عن تصور، يشي بأن أبوابا كانت مغلقة، ويعني أن سبلا كانت موصدة ، لمجيء يوم يستحقون أن تفتح استدراجا، لمقدمات أخذ بغتة، وهم مبلسون، والحمد لله رب العالمين.
ومزاوجة بين الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء أمر وارد.
لكن القول بانفتاح أبواب كل شيء أوسع مجالا، وأكبرشمولا، مما معه يخاف ذو لب أن يستدرج بأبواب من الخير والنعم، لتحمله على الفرح والبطر، من غير انتداب لشكر ولا تصدّ لتوبة !
وآفة الآفات أن يظن عبد فيما ينزل به، أو يعتقد فيما قد حل عليه، أو يحسب فيما قد فتح له، والفرض أنه لا على الجادة، فيزعم أن ذلكم رضاء من الله تعالى عنه!
ومنه فقد كان ظنهم أن الذي نزل بهم من البأساء والضراء ما كان على سبيل الانتقام من الله. ولما فتح الله عليهم أبواب الخيرات ظنوا أن ذلك باستحقاقهم، فعند ذلك ظهر أن قلوبهم قد قست، وبدا أن أفئدتهم قد أبت، وأنه لا يرجى لها انتباه، بطريق من طرق كثيرة، وأنه لا يتأمل منهم سبيل عود من سبل وفيرة، فلا جرم أن فاجأهم الله بالعذاب، ومن حيث لا يشعرون!
والفرح ليس مؤاخذ به، لكن ضبطه بضوابط الشرع وحسب، هو الذي يكون معه الكلام والبرهان، وهو فقط الذي يكون فيه القول والبيان.
ويوم يوزن الفرح بميزان الشرع الكريم، ليعرف ممدوحه من مذمومه، فحينئذ يكون الناس قد قاربوا فأصابوا، وعندئذ يكون القوم قد أدركوا وأرشدوا وسددوا.
فمن فرح محمود، ما حكاه الله تعالى في موطن الثناء والمدح والإغباط.
قال الله تعالى ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾.[ يونس :58].
وقال تعالى﴿ فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ .[ الرّوم :4].
ومن موطن فرح مذموم، ما كان بطرا أو كبرا، كما سبق عن قارون وفرحه، وكما أنف عن فعله واختياله!
قال الله تعالى ﴿ومَا أرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إلاَّ أخَذْنا أهْلَها بالبأْساءِ والضرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضرَّعُونَ۞ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَان السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حتى عَفَوْا وقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ والسَّرَّاءُ فَأخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُون﴾.[الأعراف :94-95].
وبرغم من كل ذلكم إمهال، وبرغم من ذلكم استدراج، وقد كان يمكن أن يؤبوا، وقد كان بإمكانهم أن يتوبوا، توبة نصوحا إلى الله تعالى مولاهم الحق.
إلا أنهم وبعد عشرين سنة - على قول نفر من أهل التفسير - إمهالا لم يكن لقلوبهم أن تلين، ولم يكن لأفئدتهم أن تستكين، وعندهم الذكر المبين! وما كان لهم أن يعتبروا ليخافوا! وما كان لهم أن يتعظوا! ليتحقق رجاء لأوبة، ويتأمل عود من غفلة!
أكرر: عشرون سنة !
ولايؤبون، ولاهم يستغفرون!
وماذا أنت فاعل مع قوم كان من شأنهم ما حكى القرآن العظيم عنهم؟!
فقال تعالى﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾. [التوبة: 127].
ومنه حقت عليهم كلمة ربك أنهم لايؤمنون، ومنه حقت عليهم كلمة ربك أنهم يؤخذون بغتة، ليأتيهم الله تعالى بالعذاب فجأة وهم غارّون، لا يشعرون أن ذلك كائن ولا هو بهم حال، فإذا هم مهلكون متغير حالهم إلى حال آخر، قد كان في الإمكان أن يكرموا بلا أخذ، وقد كان باليسير أن يعودوا إلى الإيمان، لكنهم بإبائهم إلا كفرهم فكان أخذهم بغتة، وهم لا يشعرون!
وكان من أخذهم بغتة أنهم أبسلوا، كما قال تعالى ﴿فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾.
والإبلاس هو وقوع الشر على حين من غفلة، ومن حيث حلوله بهم بغتة، بنص الذكر الحكيم.
وهو أيضا وقوعه على وجه ليس يمكن دفعه!
وهو من طلاقات القدرة الإلهية النافذة المطلقة، تلكم القدرة التي لايحدها حد، ولا يقيدها قيد!
وإبلاس من قدير جبار، غير إبلاس آخر، مما يمكن لنفس أن تستحضره!
وهو جزاء من جنس عملهم، لأنهم كما قال الله تعالى(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾. [المؤمنون:76].
والإبلاس: انقطاع حجة، والسكوت عنده، لعامل المباغتة، ولسبب المفاجأة!
ويصبح من أبلسه الله تعالى حيرانا، لم يسعفه جواب، كما أنه لم يعالجه فصل من خطاب!
والإبلاس بمعنى الخشوع، ولايكاد يجد رفيقا يألفه، فيشد من أزره، ولايكاد يدرك حليفا يحفظه، ليشركه في أمره . لتخار قواه، ولتكاد أن تغوص في الأرض به قدماه!
وهو بمعنى الحزن والندامة، وهو بمعنى الخيبة والكَآبَة !
وهو تغير وجه يعلوه يأسه وانتكاسته، لتغمره أحزانه وحسرته !
ومنه سمي إبليس باسمه (إبليس)!لشدة حزنه وندامته، وليقين جرمه وخسارته!
و(إذا) هي الفجائية، كناية عن شدة مباغتة، ونظيرا عن إمعان في الحسرة والندامة والخيبة والخسارة، فلا يكادون يملكون من الوقت، ما به قد يفكرون في أوبة، ولا ما فيه يمكن أن يدركوا من توبة، وبعد إذ قد حيل بينهم وبين ما يشتهون! وبعد إذ قد أمكن لهم الله تعالى من الوقت وسعته، ومن الزمان وبحبوحته.
كيما يعودوا !
ولكنهم لم يعودوا!
فحقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون !