لا يستطيع الأكاديميون التخلى عن المصطلحات التقنية كلها لكن يستطيعون أن يحذفوا قدراً هائلاً من هذه المصطلحات" ولن يشعر شخصاً بغيابها. فالعالِم الذى يستبدل مصطلح نموذج القوارض murine بكلمتى الفئران rats والجرذان mice لن يختلف معه عدد الصفحات ولن تكون مقالته أقل علمية. لكن الفلاسفة يصروا متزمتين حين يتعلق الأمر بالتعابير اللاتينية. فالكاتب الأكاديمى يستخدم الكثير والعديد من المختصرات لتوفير وقته وجهده، لكنه يغفل حقيقة أن الثوانى القليلية التى يخسرها من حياته تأتى على حساب دقائق عديدة تُسرق من قرائه.أحياناً أرى جدول الإختصارات فى بداية البحوث والكتب وأقرأ أعمدة تحمل حروفاً مث DA بدلاً منDissimilar affirmative ومثل DNبدلاً من Dissimilar Negative .
أما الكاتب الحصيف فلا يتوانى عن إضافة بعض الكلمات التوضيحية إلى مصطلحاته. حقيقة هذه ليست شهامة من الكاتب، لأن الكاتب السهل يُضاعف عدد قُرائه ألف مرة على حساب حفنة من الشخصيات. وقد يكون القُراء شاكرين أكثر إذا استخدم الكاتب امثلة توضيحية كثيرة.
ذات يوم قام "دينيس دوتون ، مؤسس مجلة Arts And Letters Daily، بعمل مسابقة عن الكتابة السيئة فى الكتب والمقالات العلمية. وكان من المُضحك المُبكى أن فاز بالمسابقة أعلام أكاديميين رائدين!
والسؤال الذى يطرح نفسه الأن... لماذا نجد نثر مبهم ومتغطرس ومن المستحيل إستيعابه؟! وهناك إجابات كثيرة لهذه الظاهرة. فالرأى الأول يقول أن الباحثون فى مجال الدراسات الإنسانية يبتكروا شفرات صعبة لإخفاء أنهم لا يجدون ما يكتبونه، لكنهم يحاولون إقناع القارىء بأنهم معاصرون للتطور العلمى، على أمل أن يخدعوا جماهيرهم بلعبة خلط الكلمات التى يتقنونها.
والرأى الثانى يقول ان الكتابة الصعبة ناتجة عن التعامل مع موضوعات معقدة ومجردة. والرأى الثالث يقول أن الكاتب مجبر على الكتابة ذات المصطلحات المعقدة... لماذا؟ بسبب لوم محررى المجلات العلمية وحُراس المنشورات الذين يشترطوا التكلف فى اللغة كونه دليلاً على جدية المحتوى.
لكن الشىء الأهم والجدير بالذكر هو أن تجد أشخاص كرسوا حياتهم لعالم الأفكار ولا يمتلكوا مهارة التعبير عن فكرهم... فكيف ذلك؟! لم يكن الأمر يتطلب منهم سوى نظرة على التحليل الأدبى ونظرة أخرى على علم الإدراك المعرفى لتبسيط ما هو مُعقد.
فالكاتب الناجح هو الذى يُحاور القارىء. لأن الكاتب بالطبع يرى شيئاً أو فكرة لا يراها القارىء. فيقوم الكاتب بتوجيه القارىء لهذا الشىء حتى يتمكن من رؤيته بنفسه.والغرض من الكتابة هو تقديم وتجسيد الحقيقة بصورة ممتعه تجذب القارىء. فتنجح رسالته ومقاله حين تتقاطع الكتابة والحقيقة معاً. ودليل هذا النجاح هو الوضوح.
لكن الأكاديميين يفضلوا الكتابة باسلوب الوعى الذاتى... فما هو؟ هى طريقة تهدف إلى تقديمهم لذاتهم عبر كتاباتهم وليس هدفها التواصل مع القراء. فهدف الكاتب الأكاديمى أن يُظهر نفسه أنه على درجة عالية من المعرفةوالعلم، وأنه ليس اقل شأناً من زملائه فى الإلتزام بمعايير النخبة. وبالفعل هذا اسلوب بائس فى الكتابة وعرض الأفكار، ولا يستمتع به القارىء لأنه مكتظ بعادات مضجرة. هذا الأسلوب مضلل للكاتب نفسه لأن الكاتب الفارغ فيه يعتقد أنه يصنع جميلاً للقارىء ،بينما مقاله محشو بالمعاينات والملخصات وإشارات للدلالة، ولكن الحقيقة أن هذا الأسلوب يستدعى المزيد من الجهد من القارىء لإستيعاب ما بين يديه .
ومن مساوىء الكتابة الأكاديمية أن يهمل الكاتب قارئه ويشرح بنرجسية هواجس نفاياته بدلاً مما يريد الجمهور معرفته حقاً.وكُتاب اسلوب الوعى الذاتى مدركون تماماً أن اسلوبهم مُعقد وجدلى. وتجد الكاتب الأكاديمى يترفع عن إستخدام علامات التنصيص فى المصطلحات العامية الشائعة، على الرغم من أهميتها فهى تفيد إقتباس كلمات شخص أخر أو للإشارة إلى عدم موافقة الكاتب على معنى الكلمة فى هذا السياق.
وبالنظر إلى خاتمة المقال الأكاديمى تجد نصه محشو بالحديث الفارغ بلا هوادة وكأن الكاتب ليس مستعد لدعم أو للدفاع عن أفكاره فتجد إستخدام متكرر من "كما يقال، إلى حد ما، إلى درجة ما، تقريباً، جزئياً، نسبياً....الخ". هذه التحوطات يستخدمها الكاتب من أجل التملص من المسؤولية حين يثت النقاد خطأ ما توصلوا إليه. على النقيض من ذلك تجد الكاتب الكلاسيكى يعتمد على الحس السليم والفطرة الإعتيادية وكأنه يجرى محادثة يومية. لكن هل تنفع هذه الحيلة من التحوطات التى يستخدمها الكاتب؟ بالطبع لا، فهو يريد تحصين نفسه بها ضد أى ناقد قد يهاجمه. ولكن الأفضل لمثل هذا الكاتب ان يتلون حسب الظروف فلا يتمسك برأيه، بل يدع لنفسه مجالاً للتهرب أو إقامة التعميم. فمثلاً لو قال أن " الرجال أفضل من النساء فى المشكلات الهندسية"، سيجد عواقب وخيمة فى إساءة فهم وتفسير هذا التصريح على أنه قانون مطلق. فيجدر به أن يدرج شىء يضمن المعادلة او شىء يجعل الأشياء متوسطة أومتساوية. والكاتب الجيد لا يستخدم تحوطات فى مثل هذه الإدعاءات. فالتحوط خيار وليس نملص.
وأيضا مساوىء الكتابة الأكاديمية أنها تستخدم ما يسمى "بالمتيا- مفاهيم" أى مفاهيم حول المفاهيم بمعنى إستخدام الكثير من المصطلحات التى تُغرق القارىء وتُعيق فهمه للنص فتنساب الميتا- مفاهيم بافراط من بين أصابع الأكاديميين.
إن مقدار المفردات المجردة التى يمكن ان يفلت منها الكاتب تعتمد على خبرة قراءاته. فعندما نكون خبراء فى تخصصنا، ننغمس فى التخصص بحيث يبدولنا الجميع يفهم الأشياء التى نعنيها! وبينما ننغمس فى التخصص أكثر، يصير عالمنا، وننسى أنه مجرد كويكب صغير فى كون من التخصصات . فهل لو تواصلنا مع كائن فضائى بلهجتنا يمكنه أن يفهمنا بدون مترجم؟
أيضاً هناك ما يُعرف ب "لعبة المعرفة" وهى سبب رئيسى أن نرى علماء عباقرة يكتبون سرداً بائساً، والأمر ببساطة أنهم لا يدركون أن القُراء لا يعرفون ما يعرفونه، وهؤلاء القُراء لا يتقنون لغة العلماء، ولا يستطيعون إتباع الخطوات التى تبدو سهلة، ومن ثم لا يهتمون بالمصطلحات العلمية، ولا يبحثون عن تفسير للمنطق خلف التفاصيل الضرورية. فكثرة المصطلحات تعيق فهم القارىء للنص بسهولة ولكن هذه ليست المشكلة الوحيدة، فهناك صياغة ضبابية أحياناً .
استخدام المتيتا- مفاهيم وكثرة المصطلحات ليست للتباهى ولا إبهام القراء، لكنها طريقة تفكير الكاتب الأكاديمى ليس إلا.فهم لا يفكرون ثم يكتبون فى الموضوعات الحساسة، بل باتوا يتحدثون مباشرة عن الدور الذى تلعبه هذه الموضوعات فى حياتهم اليومية.
وأخيرا فهناك ذخيرة من الكلمات العامية المفيدة والمجازات والإستخدام الدقيق لأدوات الجمل مثل " مع ذلك، وعلى أية حال".كما يجب على المجلات العليمة أن تشترط اليسر والسهولة فى معايير قبول المقالات والأوراق البحثية.
يكفى تغافلاً إن عدم الإكتراث فى كيفية طرح ثمار جهودنا ومشاركتها هى الخيانة لمسعانا الأعظم الذى يهدف لتعزيز إنتشار المعرفة. ولو بقينا نكتب على هذا النحو السىء نكون قد أهدرنا وقت بعضنا البعض، وزرعنا البلبلة، وعممنا الأخطاء، وحولنا مهمتنا الرصينة إلى محض أضحوكة صفراء.