كنتُ أعلم بحبِّه الشديد لدورِ النَّشر، وتفانيه في العمل فيهنَّ كلَّما أصابَ فراغًا من وقته الثمين، وكنتُ حديثة عهدٍ بالكتابة .. لكنِّي أعكُفُ على النَّص فلا أقبل إلا بالمثالية من قواعد نحويَّة وصرف وتثنيةٍ وجَمعٍ وبلاغة. وحينما شاهدتُه يُلقي كلمةً في حقّ 'الدار البيضاء' والتي كانت أكبر دار نشرٍ أُقيمت لها الأنقاض في بلدتنا، ورأيتُ حنكته في الحديث، ونُطقه الصحيح للذاء والظاء، والكسر والفتح، وضمّ الأحرف التي شعرتُ بضمّتها في قيعانِ روحي؛ قُلت لنفسي "ويلٌ لكاتبةٍ من مخارج صحيحة، وتحنيكٍ عبقري!".

ثم تركتُ النشر في الدّور المتفرّقة إلا الدَّار التي أفنى وقته فيها، فأرسل القصاصات والمقالات التي تنبعج منها الأخطاء الإملائية، والنحوية. فيرسل إليَّ بريدًا فيه تصحيح وتزكيةٌ لطريقتي في الكتابة، وأخاف بعدها أن يكشف أمري؛ إذ أنّه كيفَ لإسلوبٍ نادر الوجود أن تنتابه كلّ تلك الأخطاء الفادحة. وفي المرّة العاشرة أرسل بريده كالمعتاد "سأتشرّف بكِ في مكتبي 'المفتوح' بدار النشر يوم السبت الساعة العاشرة صباحًا". هنا سمعت لقلبي زقزقة!.

حينما وقفت على العتبة استقبلني بابتسامةٍ واسعة رحبة كالسماء، تغرقُ فيها العيونُ كالماء، تعلّقت بمقبض الباب حياءً، فقال "ادخلي وابقي الباب مفتوحًا".

أشار إلى الكرسيِّ بإماءة أكثر رحابةً، فجلست وشردتُ في السجادة الحمراء أسفل الكرسي.

"لا ريب أن أسلوبكِ نقرة، والأخطاء نقرةٌ أخرى لا تنفذُ إليها نفسي بسهولة، وسأختصر قدر الإمكان، ما الذي يدفعكِ لمثل هذا العمل؟"

لم تقوَ حنجرتي على التفوّه بكلمة، فأدار طاولة الحوار له مرّة أخرى .. "أنتِ كنتِ بحفلِ تشييد الدار البيضاء للنشر أليسَ كذلك؟".. بدأ قرعُ الطبول يُسمَع من قلبي .."نعم".. ثم ابتسم وأخفض نظَره إلى الأرض..

"يبدو أنّه لا داعي لكتمان الأمر أكثر من ذلك. حينما دخلتُ القاعة وجدتُكِ مع أستاذي ومعلّمي أيمن، كنتِ تمسكين كتابًا وهذا ما أدهشني حتى النخاع، إذ أن هذا الحفل تأتيه الجماعاتُ قاطبة من كل حدبٍ وصوب لأجل المفاخرة ليس إلا، وأنتِ في معزلٍ تقرأين كتابًا! .. سألتُ الأستاذ أيمن من تكونين، قال إنَّك من أنجب تلاميذه، والذي يستشرفُ منذ الآن دار نشركِ الخاصَّة في المستقبل لما يجد فيك من أصولٍ كتابية عربية لا تُجتَثُّ بسهولة. ثم قُلتُ كلمتي باعتباري المموّل الأكبر للدار والمموّل العاطفيّ أيضًا لدارٍ ستحمل أطنانًا من التراث العربيّ الأصيل، ولاحظتُ حملقتكِ فيَّ بأقل من الثانية، ثم مضى كلّ منا في سبيلِه، ولكنّك لم تمضِ من ذهني. بعدها أُفاجأ باسمك في الرسائل التي تأتي لدار النشر، وأرى فيها مَلَكةً فكرية لم يسبقكِ فيها أحدٌ من العالمين، وتبقى أخطاؤك الشنيعة كالشوكة في الحلق. وها أنتِ أمامي الآن، يجري الحياء منكِ مجرى الدم في العروق حتى لتَنضَحه حُمرةً في وجهك، فتترسّخ فكرتي التي لم تدع فيَّ مجالًا للشكِّ بنيَّتك من الأساس .. قبل أن تدافعي عن نفسِك وتدمّري ما حاولت بناءه في تلك الدقائق المعدودة من الحديث .. إن أردتِ .. يمكنني أن أساعدُكِ في تصحيح تلك الأخطاء، ولكن لا أستطيع في حالتي هذه ".. ثم بدأ يفرُك رأسه .." فربّما لو حددتُ معادًا مع أستاذ أيمن، ثم ذلك الوالد العظيم الذي أنجب عقليّة فذّة تمثّلت فيكِ، ربّما بعد أن نحدد هكذا معاد، أستطيع أن أكون معلِّمًا مخلصًا للأبد .. لكِ وحدك.. 

انتَهت.