لقد أولى القرآن الكريم مسألة الطعام عناية جعلت منه أمرا هاما ومعتبرا. وذلك لأن الطعام به قوام الجسد ، وعمله فيه كما عمل المسائل الروحانية في النفس تماما . ومنه كانت العناية به من ذلكم الجانب ركيزة من ركائزه وعمادا من عمائده .
وعلى هذا الأساس أيضا قد تماهت معه قيم فطرية دلها عليه ما أركز الله تعالى فيها من محبة للطعام ورغبة فيه وكونه حلالا ، ذلك وكأني بهم يقولون : ما فائدة طعام يذهب جوعا وحسبه ذلكم عمل؟!
وكثير مما خلق الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه يأكل !
ودالة الاشتراك في الطعام مع غير الإنسان هنا أمر ليس يسمى فارقا !
وإنما الفارق يوم أن يجتمع نعتا الطعام من كونه حلالا زكيا قبل أن يكون من كونه طعاما !
وهذا الفارق طبيعة هو ما أسس بنيانا متينا آخر دل على كونه لا يكون طعاما وحسب بقدر ما يكون غذاء حلالا طيبا ليقوم به جسد قوي متين من بنية ولينشأ به جسم روحه عالية ونفسة مشرقة !
فتناغم بين جسد وروح قوامه طعام حلال وحسبك!
وليس يتأتى ذلكم جسم ملي ، وليس ينشأ ذلكم بناء روحاني مؤتلف إلا من كونه قد ترعرع من غذاء حلال !
والقول بغير ذلك يمكن أن ينشئ جسدا في بنية تراه العيون من صورة الأقوياء ، وهو لا يقوى أمام شدة ، ولا يتصبر ولايحتمل بأسا! ولا يتجلد ولا يتصبرعند أول ابتلاء !
ذلك لأنه مفرغ من قوة في عقيدة ، وذلك لأنه هلع أجوف ، وذلك لأنه متهافت من ضعف ، في مواجهة مواقف لا تخلو منها حياة امرئ في معاشه.
وكذا فشأنه ترنح أمام أدنى الإخبار ، وأمره وهن في مجابهة الأخطار!
وخوار في مواجهة الاختبارات ، وهزال عند ملاقاة الابتلاءات ، وخوف في مجابهة الشدائد ، وهلع أمام الملمات والمواقف والمشاهد الحياتية المختلفة .
وهو أمر مشاهد للعيان ولا تكاد تخطئه حقائق الفطناء فضلا عن مشاهد الحس ووقائع الأحوال!
وخلاصة ما أرجو إيضاحه ضرورة التناغم بين الطعام من حيث كونه طعاما ، وبين وجوبه حلالا زكيا ، كيما ينتج أثره ، وكيما يفلح آكله.
وبدونهما معا فليست نتائجه مضمونة لإسعاد، وليست ثمارة محسومة لتيسير أمر أو صلاح حال أو هدوء بال .
وذلكم لهزال قد أصاب صاحبه ، ولضمور قد التحف به نديمه ، ووهن تراه متقلبا فيه آناء الليل وأطراف النهار!
وقد أبان القرآن الكريم ذلك أيما إبانة ، وقد أفصح عنه أيما إفصاح !
فهؤلاء فتية آمنوا بربهم فزادهم هدى ، وكان من قوام هداهم وناموسه ألا يأكلوا إلا طعاما هو أزكى !
وزكاء طعام ليس يكون إلا حال كونه قد كان حلالا لم تشبه شائبة من حرام !
وزكاء طعام قد طالته البركة من نواحيه ، وحفه يمنه من أرجائه حتى كان ذا مذاق تسيغه الأفواه ، وتسعد به البطون ، وتطمئن به النفوس !
وزكاء طعام ليس شرطا أن يكون غاليا ، فرخصه قمن أن يكون زكيا ، وهو أمر مشاهد في وقائع الأحوال ، وهو شأن محسوس في دنيا البسطاء والموسرين معا.
قال الله تعالى(فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) . [ الكهف: 19] .
وانظر إلى عدم اكتفائهم بكونه زكيا وحسب !
بل بكونه أزكى!
وهو من شيم الفضلاء ، وهو من كرم المشاعر ، وطيب الفطر ، وسواء الرشد في البحث عما يقيم صلبا مهديا ، والتنقيب عما ينشئ جسدا قويا!
وهذا حث الكتاب المجيد ألا يكون طعام إلا حال كونه طيبا !
وليس يكون أبدا طيبا مالم يكن حلالا صرفا !
ولا عليك ممن قد تناصبوا وتحايلوا ، ولاعليك ممن قد تخادعوا وتخاتلوا ، ولا عليك ممن قد تماكروا وتداهنوا ، ولا عليك ممن قد تضاللوا وتراوغوا ، ولا عليك ممن قد ابتزوا وتغاشوا !
قال الله تعالى(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51].
وهذا نهي عن تداول المال بالباطل بين الناس ، فهذا من حقه أن يذهب بركة ، وذاك من شأنه أن ينشئ مجتمعا هزيلا ، تكاد ترمي به الريح في مكان سحيق !
وما ذاك إلا لأنه كان طعاما مأكولا باطلا ، من سحت أو من رشاء أو من ربا أو من عقد حرام أو من سعي مقته الشارع الحكيم !
قال الله تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) . [النساء: 29] .
وكل طعام ليس طيبا فمردود على صاحبه .
وكل طعام حلال قمن أن يكون سببا لقبول الدعاء ، وموجبا لأن يكون داعية لقبول الرجاء !
وهذا حديث من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه( أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحًا، إنِّي بما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون:51] . وقالَ: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ}[البقرة:172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟).[ صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1015 ] .
قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : بالورع عما حرَّم الله يُقبل الدعاء والتسبيحُ.
ويا لخسار من دعا ! وقد كان مأكله حراما ، أو قد كان مشربه حراما ،أو هما معا !
قال الإمام الحبر الترجمان عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما(تُلِيَتْ هذهِ الآيةُ عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} [البقرة: 168]، فقام سعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ, فقال: يا رسولَ اللهِ, ادعُ اللهَ أنْ يَجعَلَني مُستَجابَ الدَّعوةِ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ؛ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ. والَّذي نفْسُ محمَّدٍ بيدِهِ, إنَّ العبدَ لَيَقذِفُ اللُّقمةَ الحرامَ في جَوْفِهِ ما يُتَقبَّلُ مِنهُ عَمَلٌ أربعين يومًا, وأيُّما عبدٍ نَبَتَ لحمُهُ مِن سُحْتٍ, فالنَّارُ أَوْلَى بهِ). [جامع العلوم والحكم ، ابن رجب : الصفحة أو الرقم: 1/260 ] .
والحديث في إسناده فيه نظر .
التخريج : أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6495) باختلاف يسير.)[2].
وتضافر آي الذكر الحكيم على أمر بأكل طيب حلال يبين منه أهمية له وتنويها به .
قال الله تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) . [البقرة: 172].
وقال تعالى( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) . [المائدة: 4].
وقال تعالى( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) . [الأعراف: 157].
والحلال يجب أن يكون حلالا صرفا , فلا تشوبه شائبة ولو واحدة من حرام , وإلا فكان الحكم أنه حرام تغليبا .
قاعدة : إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام . [ الحجة للشيباني: 329/3 ].
ولين قلب ويسر مزاج لأكله حلالا. وصعوبة طبع وعسر مزاج لتناوله حراما .
سُئِل بعض الصالحين: بِمَ تلين القلوب؟ فقال: بأكل الحلال.
ونجاة امرئ وفوزه رهن الحلال .
قال سهل بن عبدالله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.