مــا تيجى أقــولك... "مكـارم منوطـة بالمكـاره"
بقلـم الأديب المصــرى
د. طــارق رضــوان
جُرمٌ صغيرٌ... فيه إنطوى العالمُ الأكبرُ .,, ومعالى على شوك العوالى... وبين الثقة بالنفس والغرور شعرة. فكن طموحاً. كلمة "مكارم" تلفت إنتباهى بأن داخلها "مكر" .والمكر الحميم هو تخطيط ودراسة لمستقبل مشرق براق... هو نظر ثاقب وتطلع لمستقبل سمته الأخلاق.
رغم أن كثرته مخيفه، فى الأرض وعلى الحوائط وقد تجده على الفراش أحياناً، إلا إنها أُُمة جديرة بالإحترام وفى قصصها الكثير من الحكم والعظات. أُمة النمل تجتهد في منتصف الصيف لتدخر طعام الشتاء , و تعلم في الشتاء انه ليس نهاية المطاف بل هناك صيف قادم , و لا تستسلم ابدا مهما كانت المشكلات. لنا فى حركته ونظامه وتعاونه دروس مستفادة يفتقدها الكثير من البشر. وكثيرا ما يأخذنى خيالى وأنسى حاضرى وما حولى وأنا أتابع نشاط هذه الأمة المتماسكة. وتمجيداً لها سجل الله فى أياته الكريمة فصة النمل مع نبيه سليمان الحكيم. وإذا جاز لى الدعاء فلن أتردد فى أن أدعو الله أن يُنَمِل شبابنا... فيوهبهم العزيمة والإرادة والطموح والمثابرة والتعاون وغير ذلك الكثير والعديد من صفات النمل الجميلة.
ورد فى الأثر أن رجلاً جاء إلى أحد ذوي الطموح العالية وقال: عندك حُويجة ! فقال له : "أَطلبُ لها رُجَيلاً " ، إن كانت حاجتك صغيرة فاذهب لصغير يقضيها لك ...أما أنا فلا أنظر إلا إلى معالي الأمور وكبارها .ولذلك يقول الشاعر:
أَخْلِق بذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بَحَاجَتِهِ... وَمُدْمِن القَرْعِ للأبوابِ أَنْ يَلِجَا
و ما نيل المطالب بالتمنى ... و لكن تؤخذ الدنيا غلابا
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ... ساح طاب وإن لم يجري لم يطبِ
والأُسد لولا فراق الأرض ما افترست ... والسهم لولا فراق القوس لم يصبِ
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة ... لملّها الناس من عُجم ومن عربِ .
إِذا أنتَ لم تزرَعْ وأبصرْتَ حاصداً … ندمْتَ على التفريطِ في زمنِ البذرِ
بَصرْتَ بِالرَاحَةِ الكُبْرَى فَلَمْ تَرَهَا … تُنَالُ إِلا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
يقول مصطفي السباعي:" المؤمن يُرَفِه عن جد الحياة بما ينعش روحِه، وبذلك يعيش حياته إنساناً كاملاً، وغير المؤمن يُرَفِه عن جد الحياة بما يُفسد إنسانيته، وبذلك يعيش حياته نصف إنسان".
النعيم لا يدرك بالنعيم، كما أخبرنا ابن الجوزية، ومن أثَر الراحة فاتتهُ الراحة,بحسب ركوب الأهوال وإحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة, فلا فرحة لمن لا هم له, ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له ،ولا راحة لمن لا تعب له ،بل إذا تَعِب العبد قليلاً ..إستراح طويلاً .. وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة .. قاد لحياة للأبد ، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة ، والله المستعان ولا قوة إلا بالله ،وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى ، كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل.
فإذا ما إعتبرنا بالنمل وحياته وأردنا تحقق العلى ، فلابد أولاً أن تُنَمى ثقتك بذاتك فالثقة بالنفس فضيلة كُبرى عليها عماد النجاح في الحياة، وشتان بينها وبين الغرور الذي يعد رذيلة، والفرق بينهما أن الغرورَ اعتماد النفس على الخيالِ، وعلى الكِبرِ الزائفِ، والثقةَ بالنفس إعتمادُها على مقدرتها على تحمل المسؤولية، وعلى تقوية ملكاتها، وتحسين استعدادها. ويمكنك أن تساعد غيرك فى تنمية ثقته بنفسه، فلكل شخصية مفاتيحها،فإذا ما فهمت شخصية محدثك، سَهُلَعليك الكثير من الأمور : فقد يكون صالحا يكفيه أن تقول له : قال الله وقال رسول الله ,و قد يكون محتاجا لكلمه مديح , أو شقي لا ينتهى إلا بالزجر و التهديد.
هناك أشخاص مرتبطون بأُسَرِهم فلو دخلت إليه من منطلق الآسره لسهل عليك الوصول، كان عبد الواحد بن زياد يقول :" ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشئ يكون أسبقهم إليه و إذا نهاهم عن شئ يكون أبعدهم منه".
و أحذر أن تدعو الى الخير و لا تأتية ... و تدعو الى الباطل و أنت واقع فيه:
يا أيها الرجل المعلم غيره *** هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم
وقوله تعالى: " كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ".
وللعلم وإتقان فنونه وصنوفه الأثر النافع للفرد والجماعه. وطلب العلم والطوح لنيل أعلى درجاته أمر منصوص عليه دينياً. فالأمر بالقراءة والبحث والتدبر أمر واضح لا شك ولا جدال فيه. ويحضرنى قصة طريفة وردت فى الأثر توضح فطنة العالِم وحيله لمعالجة ما يضر المجتمع ويؤذيه: فحين أُصِيبَ العلامة المؤرخ الشيخ الخضري في أواخر عمره بِتَوَهُّمِ أن في أمعائه ثعباناً، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءاً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلاً وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعباناً فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس بالعافية، ونزل يقفز قفزاً، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءاً، و يئن ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبداً.
يقول الاستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي:" من العجز أن يزدري المرء نفسه فلا يقيم لها وزناً، وأن ينظر إلى من فوقه من الناس نظر الحيوان الأعجم إلى الحيوان الناطق، وعندي أن من يخطئ في تقدير قيمته مستعلياً خير ممن يخطئ في تقديرها متدلياً؛ فإن الرجل إذا صغرت نفسه في عين نفسه يأبى لها من أعماله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده؛ فتراه صغيراً في علمه، صغيراً في أدبه، صغيراً في مروءته وهمته، صغيراً في ميوله وأهوائه، صغيراً في جميع شؤونه وأعماله؛ فإن عظمت نفسه عظم بجانبها كل ما كان صغيراً في جانب النفس الصغيرة.
ولكى يكون الإنسان طموحاً، لابد أن يشعربما هو فيه من نعم ويسعى لزيادتها. فمن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، و من لم يشكر الناس ، لم يشكر الله ، و التحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر ، و الجماعة رحمة ، و الفرقة عذاب. وعدم شكر النعمة وإنكارها بالفعل لن يؤدى إلى الطموح والنجاح ولكن إلى الفشل والنقمة.
قال الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين:
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ---- سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ----- لأخذ العلم أو إصلاح حال
أنت في الناس تقاس ---- بالذي اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلوا ---- وتنل ذكرا جميلاً
إن أفضل إعداد للنجاح هو تكوين صورة ذاتية إيجابية: تأمل في قول محمد على كلاي في الحلبه :" أنا الاعظم"
I am the greatest, I said that even before I knew I was. I figured that if I said it enough, I would convince the world that I really was the greatest.
أنا الأفضل .. كنت أقولها حتى قبل أن أعلم أني كذلك. عرفت أني ذا قُلتها بإستمرار – إنني الأفضل – سأقنع العالم بأنني فعلا الأفضل. و تحسب أنك جُرمٌ صغيرٌ. و فيك إنطوى العالمُ الأكبرُ.
هب أن كل منا معه قالب طوب أحمر لنُحَطمه بأيدينا و كان محروقا فكان شديد الصلابه فتكسرت أيدينا ،فبدى الأمر مستحيلاً. لكنك حين تتخيل نفسك وأنت تفعلها تخيل يدك و هى تحطم قالب الطوب تخيل الصورة بقوه فستحطمه ” و هو ما حدث بالفعل .
ومصداق ذلك حادث في الحياة المادية، فمن دخل مسابقة مائة متر شعر بالتعب إذا هو قطعها، ومن دخل مسابقة أربعمائة متر لم يشعر بالتعب من المائة والمائتين؛ فالنفس تعطيك من الهمة بقدر ما تحدد من الغرض، حدد غرضك، وليكن سامياً صعب المنال، ولكن لا عليك في ذلك ما دمت كل يوم تخطو إليه خطواً جديداً.ثم لا شيء أقتل للنفس من شعورها بضعتها، وصغر شأنها، وقلة قيمتها، وأنها لا يمكن أن يصدر عنها عمل عظيم، ولا ينتظر منها خير كبير.
النمل لا يخاف من تكرار المحاولة ، فلا تخف أبداً من المحاولة، تذكر أن هُواه بنوا سفينة نوح.. وخُبراء بنوا سفينة تايتانيك. وتذكر أن لا أحد منا يعشق ألم التمرين والتدريبات الرياضية، لكنها وسيلة مُلحة للوصول للغايات والبطولات: وهذا ما ذكره البطل العالمى للملاكمة محمد علي كلاي:
I hated every minute of training, but I said, ”Don’t quit. Suffer now and live the rest of your life as a champion.”
كرهت كل لحظة من التدريب ولكني كنت اقول ( لاتستسلم ) اتعب الان ثم عش بطلا باقي حياتك.
يقول عثمان احمد عثمان :" تعلمت أنه من جد وجد و من زرع حصد و تعلمت أن الرزق لا يسعى الى الإنسان و لكن كما قال الله سبحانه و تعالى"هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) "
يقول الاستاذ احمد امين : كل شيء في الحياة يجاهد، الجسم يجاهد المكروبات حوله وفيه. والعقل يجاهد الأفكار السقيمة، والخيالات السامة، وخير وسيلة للتغلب عليها حيويته، ونشاطه، وتفكيره المنتج، لا خنوعه واستسلامه. وهكذا كل شيء في الحياة جهاد، والجهاد الصحيح يعتمد على الإرادة الصحيحة، والتجارب الدائمة، والعمل المستمر. إن العالم مملوء بالحيوية، وهو في حركة دائمة، ونشاط مستمر، وقُوىً متفاعلة ، من كهرباء وقوى ذرية، وحرارة وبرودة، ورياح وعواصف، ونحو ذلك.فالذي ينجح في هذا العالمِ المتحركِ النشيطِ إنما هو مَن انسجم معه بالعمل والقوة والحيوية، ولذلك كان السكون التام موتاً. فمن جد وجد و من زرع حصد.
ولا ينال المعالي الغر غير فتى ... يدوس شوك العوالي غير منتعل
يقول الإمام الشافعي:
سهرى لتنقيح العلوم ألَذُّ لى ... من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلى طربا لحل عويصة ... أشهى وأعظم من مدامة ساق
وألذ من نقر الفتاة لدفها ... نقرى لألقى الرمل عن أوراقى
وصرير أقلامى على صفحاتها ... أبهى من العشق والعشاق
أأبيت سهران الدجى وتبيته ... نوما وتبغى بعد ذاك لحاقى؟
إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته ، وتحقيق بغيتته ، لانه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره .و لن يكون لأى أنسان مكان تحت الشمس , اذا كان يجلس طول الوقت في ظل الكسل.
و قال بن القيم :”(فالنفوس الشريفة لاترضى من الأمور إلا أعلاها وأرفعها وأسماها منزلة، والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، فهذه النفوس الدنيئة مثل الذباب لا يقع إلا على الجروح )
إن موسى حين أراد أن يسير ببني إسرائيل ضل عنه الطريق فقال لبني إسرائيل ما هذا ؟ قال فقال له علماء بني إسرائيل : إن يوسف عليه السلام حين حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى تنقل عظامه معنا فقال موسى : أيكم يدري أين قبر يوسف ؟ فقال علماء بني إسرائيل ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل فأرسل إليها موسى فقال : دلينا على قبر يوسف قالت : لا و الله حتى تعطيني حكمي فقال لها : ما حكمك ؟ قالت : حكمي أن أكون معك في الجنة فكأنه كره ذلك قال فقيل له : اعطها حكمها فأعطاها حكمها فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء فقالت لهم : انضبوا هذا الماء فلما انضبوا قالت لهم : احفروا فحفروا فاستخرجوا عظام يوسف فلما أن أقلوه من الأرض إذ الطريق مثل ضوء النهار .فتامل كيف غضب رسول الله من الاعرابي حين هبطت همته الى الدنيا , و عجب الا يكون كعجوز بني اسرائيل التى طلبت مرافقة الانبياء في الجنة.
و قيل لهند بنت عتبه عن سيدنا معاوية و هو طفل :”معاوية يسود قومه” قالت ” ثَكِلَتْهُ إنْ لَمْ يَسُدَّ إلَّا قَوْمَه. ”وقيل ليزيد بن المهلّب: ألاّ تبني دارأ؟ فقال: منزلي دار الإمارة أو الحبس. و مما يشهد لهذا المعني ان سيدنا موسى لما كلمه الله تاقت نفسه للنظر اليه:
بلغنا السما مجدا وجودا وسوددا … وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا