غيرت جائحة كورونا الكثير من التصرفات والطباع والتوجهات الخاصة بنا، ومنذ وقت طويل بقصد أو بدون، عودت نفسي ألا أقرأ الرسائل في صندوقي على وسائل التواصل الاجتماعي، والاكتفاء بالرد على القليل منها فقط، لأني منذ وقت طويل أقلعت عن إدمان وسائل التواصل بشكل يومي، إلا أن ظروف الملل والقلق أجبرتني على تغيير بعض أنماط الحياة، واتخذت قرارًا بأن أفتح كل رسائلي لأقرأها، لعلي أجد بها ما أبحث عنه.
ثلاثة أصناف من الرسائل كانت بصندوقي، الأولى ترسل أوتوماكتيكيًا لكل الأصدقاء، فوجدت كثيرًا من الخرفان والفوانيس، ثم كثيرًا جدًا من كل سنة وإنتي طيبة، وهذه النوعية من الرسائل لم تسعدني كثيرًا، ولم أندم أني لم أفتحها، فقد أضحت عادة لدى جميع رواد وسائل التواصل، أما النوع الثاني فهي رسائل يرسلها صديق مخصوصة لي، وتحمل اسمي للاطمئنان أو للمعايدة، وأشعرتني هذه بالارتياح، فمن الجميل أن تخطر على بال أصدقائك، أما النوع الثالث من الرسائل فأرسلها أصدقاء بحثوا عني، وعني فقط تحمل قصص وحكايات استوقفتني وعلمتني، لأنها حملت معها أفراحًا وأحزانًا وآلامًا وأشجانًا وغضبًا وبهجة وصدمة، فشعرت بعد قراءة بعضها بدموع تسيل من الفرح وأخرى من الألم، وكثير من الندم.
الرسالة الأولى: الألم العظيم
أهم تلك الرسائل من “صفية” أول صديقة في حياتي، انقطعت عن مراسلتي منذ وقت طويل، تخطر على بالي عندما أتذكر طفولتي، فهي علامة مميزة وفارقة، طيبة القلب، خلوقة ومحبة للجميع، تقول في رسائلها إنها بحثت عني حتى وجدتني. رسائل “صفية” كانت عديدة، فكانت ترسل لي أسبوعيًا، وفي بعض الأحيان يوميًا، لعلي أجيبها وأتواصل معها، كانت في حاجة لي، وحملت رسائلها ذكريات الطفولة.
فجأة أصبحت الرسائل تميل إلى الدراما، فروت لي ما حل بها على يد أهلها عندما رفضوا أن يزوجوها من حبيبها، ثم مرضت بالسرطان اللعين وأصبحت في مرمى سهام الموت.
تفاصيل رسائل “صفية” مخيفة، أرعبتني وزلزلت وجداني، وشعرت بالندم لأنني لم أفتح رسائلها في حينها، ولم أشاركها زلزلات القدر، وفجأة توقفت الرسائل التي كان آخرها منذ عدة أشهر، فلاحظت أن هناك رسائل نعي على صفحتها، وعلمت أنها قد فارقت الحياة. هل لأنها لم تحارب أم لأنها لم ترغب أن تحارب؟ 3 أيام من الصمت من هول الصدمة التي لا زالت تطاردني. صوت وطيف ونظرة “صفية”.
الرسالة الثانية: جرعة مكثفة من الألم
بعد عدة أيام قررت فتح الصندوق مرة أخرى، وكانت الرسالة الثانية من “فاتن”، زميلة وصديقة الإعدادي والثانوي، جاءت لتزيد آلامي، فذكرتني أول ما تحدثت عن صديقتنا “إسراء” التي توفيت إثر حادث أليم. تلك الفتاة التي كانت تشبهني إلى حد كبير في الشكل والطبع، وما أثلج صدري من رسالة “فاتن” أنها قالت إنها بحثت عني في كل مكان من المحتمل أن أوجد به.
وبعد أن تحدثت عن الألم الخاص بي وهو موت “إسراء”، حدثتني عن ألمها، والذي بدأته باحتراق فستان الزفاف ليلة العرس، لسبب غير معلوم على حد قولها، ثم وفاة زوجها مسمومًا من وجبة فاسدة، ولم تنهِ رسائلها إلا وهي معلنة عن وحدتها بعد وفاة كل أفراد عائلتها. صدمة لم أكن أتوقع أن تنهي “فاتن” بها رسائلها، ولكنها الحياة، ماذا كانت تظن “فاتن” عندما لم تتلقَ مني ردًا؟ هل ظنت أني خنتها بالتخلي عنها وتجاهل آلامها؟ هذه المرة لم أكن مصدومة، فتخليت عن ذلك الإحساس بالصمت لأكون كائنًا نائمًا لعدة أيام، ملتصقًا بالسرير، لم أجد أفضل منه للسلوى، وكنت أظن أنني تحصنت، ولكني نمت لأجد “فاتن” و”صفية” منتظرتين لتتحدث كل منهما عن وصفها لشعورها بالألم، فيا للألم!
الرسالة الثالثة: بهجة لم تكتمل
أما الرسالة الثالثة فكانت من “رشا” صديقة الجامعة، فتاة عنيدة ولكنها منفتحة. بدأت رسائلها بشحنة من الأمل والتفاؤل، إلا أنني ترقبت الأحداث الدرامية، وصدق حدسي، فبعد أشهر قليلة من الرسالة الأولى التي تقول لي فيها إنها تزوجت من الرجل الذي أحبت، حتى بدأت الأحداث مأساوية، حيث فجأة أصبحت الزوجة الأولى، وجاء بالعروسة لتعيش معها، رغم أن الشقة في بيت عائلتها. صدمت “رشا” من تصرف الزوج وكاد والدها أن يفتك بالزوج، لولا لطف الله بها وبأهلها.
شعرت من روايات صديقاتي أنهن يردن تدوين مذكراتهن لديَّ، يردنني أن أروي تراجيديا من الحياة سيل من الألم، نوات من المنغصات وإعصار من الجراحات من الأحباب لا من الغرباء، أردن أن يقلن إن أحيانًا كثيرة الأغراب أكثر رفقًا وأوسع صدرًا وأوفر حنانًا من المقربين من الأهل و الأحباب ومن تركوا الدنيا لأجلهم.
حالة من الحرج الشديد الذي قد تشعر به أمام ذاتك، طامات كبرى تلحق بالأصدقاء، وصدمات وتساؤلات أواجه بها نفسي، أين كنت؟ ولماذا لم أرد على تلك الرسائل؟ الأقدار تسوقني أن أعرف المصائب بعد أن تنتهي، وكأن اللطيف يعلم أنني لن أحتمل، إلا أنني أدركت بعد أن قرأت عددًا من تلك الرسائل التي لم أجب عنها في وقتها عن غير عمد، أن هناك رسائل لا يجب تأجيلها، ومشاعر تفقد معناها وجمالها إذا طال الانتظار، وقررت أن أتوقف عن فتح الرسائل، فإما أن أفتحها في وقتها وإما لا أفتحها أبدًا، وكانت إجابتي على رسائل كل الأصدقاء: أصدقائي.. كونوا بخير.