أستيقظت على شقشقة الطيور بشباكى ، وأسترقيت السمع.وإذا بهم يهمسون عجباً لبنى البشر يصنفون الخصال إلى نوعين:قبيحة وحسنة. ولو أنهم يعلمون أن الله لم يخلق خصال وصفات بغيضة .فأخذتنى الدهشة وأنتابنى الذهول، لكننى أُحب التروى فيما أسمع ولا أُصدر حُكماً، حتى أستوفى جميع أو أغلب الأركان المتعلقة بالأمر. فنهضت والهمس يشغل بالى وأخذت أبحث عن مصدر هذا القول وحكمة الطير التى قد يفوقنى علماً وثقافة. وليس هذا إعتقادى فقط بل هــذا ما علمنا إياه سليمان النبى: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ۖ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16). وبدأت حيرتى تنحصر شيئاً فشيئاً ، وكذلك سوف تجدوا الأمر منطقى حين أُذكركم ونفسى بقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"، رواه مسلم.
كُثُرَ فى زماننا من يشغل باله بغيره، وهذه أفة العصر وترجع إلى وجودوقت فراغ لا يستطيع المرء إستغلاله فيما يفيد .. ولو أنشغل كل فرد بإصلاح حاله ،لكان أولى وأجدى للفرد والجماعه. ويُحكى فى الأثر أن زاهدٌ لقي زاهداً ، فقال له : يا أخي ؛ أحبك في الله . قال الآخَر : لو علمتَ ما في نفسي لأبغضتَني في الله . قال له الأوّل : لو علمتُ من نفسي ما تعلم من نفسك لكان لي من نفسي شُغـُلٌ عن بغضك".
ويصدق قول الشاعر فى هذه الفئة المجتمعية الرديئة فيقول:"شر الورى بعيوب الناس مشتغل... مثل الذباب يراعي موطن العلل"
قال بكر بن عبدالله المزني :" أذا رأيت الرجل قد أنشغل بعيوب الناس عن عيب نفسه فأعلم أنه قد مَُِكر به " . أنا مشغول بذنبي عن ذنوب العالمين... وخطايا أثقلتني جعلت قلبي حزينا
ومن العيوب التى تضر بنا هى سمة الغضب. فهو أحد أبواب ابليس اللعين، الذى يجتهد وجنوده ليجعل الإنسان ينكر فضل الله عليه،فيزداد سخطاً وكرهاً لربه ويحقد على عباد الله. فالغضب يجعل تفكير الفرد فاسد،حاقد، ناقم على نفسه وعلى مجتمعه.
وقال أكثم بن صيفي: من حلم ساد ومن تفهم ازداد، وكفر النعمة لؤم وصحبة الجاهل شؤم، ولقاء الإخوان غنم والمباشرة يمن، ومن الفساد إضاعة الزاد.
والغضب رذيلة ظاهرة ،يمكن أن نرشد الناس لإجتنابها ...لكن الأخطر والتى لم ولن نلقى إليه بالاً هى محبة أدت إلى الإنتقام. وهذا ما يُقره يوسف الصديق . فكان الحب بلاءً عليه و كان فى رميه في الجب ثم في السجن خير كثير. قال رجل ليوسف عليه السلام: إني أحبك يا صفي الله، فقال: هل أتيت إلا من محبة الناس لي: أحبني أبي فحسدني إخوتي حتى ألقوني في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فلبثت بضع سنين في السجن"
وأغلب البشر تجدهم يشكون العوز والفاقة. ولا يدركون ن صبرهم على هذا هو ترقية لمنزلتهم فى الأخرة. يقول المرُّوذي : سمعت أبا عبدالله يقول:"ما أعدل بفضل الفقر شيئاً، تدري إذا سألك أهلك حاجة لا تقدر عليها أي شيء لك من الأجر؟ .و قال-صلى الله عليه و آله و سلم-: " اذا جمع الخلائق يوم القيامة نادى مناد: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس- و هم يسير- فينطلقون سراعاً إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إنا نراكم سراعاً إلى الجنة؟ فيقولون نحن أهل الفضل. فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صبرنا و إذا أُسىء إلينا عفونا، و إذا جُهل علينا حلمنا. فقال لهم: أدخلوا الجنة فنعم أجر العاملين".
وقد يظن البعض بى الجنون إذا ما ذكرت أن أحدهم تمنى موت ولده... فكيف هذا؟! عن محمد بن خلف قال : كان لإبراهيم الحربي إبن له إحدى عشرة سنة قد حفظ القرآن ، ولقنه أبوه من الفقه والحديث شيئاً كثيراً ، فمات فأتيته لاعزيه ، فقال : كنت أشتهي موته ، فقلت له : يا أبا إسحاق ، أنت عالم الدنيا ، تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ، وحفظ القرآن ، ولقنته الحديث والفقه ؟ ! قال : نعم ، رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت ، وكأن صبياناً بأيديهم القلال فيها ماء ، يستقبلون الناس يسقونهم ، وكان اليوم يوم يوماً حاراً شديد الحر. فقلت لأحدهم : إسقني من هذا الماء. فنظر إلي ، وقال : لست أنت أبي ، قلت : فأي شيء أنتم ؟ قالوا : نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا ، وخلفنا آباءنا ، فنستقبلهم ونسقيهم ، فلهذا تمنيت موته.
قال تعالى : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } النحل / 97 .
وحتى فى السجن يجد المؤمن ما يعينه على هذا ... فهو يعلم علم اليقين أن المحبوس من حبس قلبه عن ربه : يرى في حبس السجن خلوه مع ربه و في غربته عن الاوطان سياحة يدفع فيها الاف الجنيهات . ولكل منا منطقه.
والمرض رغم قسوته أيضا فيه من العظة ما يجعل المؤمن راضى بقضاء ربه والصبر على عطاياه و يعلم أن فى هذا غفران والفوز بأرقى منازل الجنان . لأنك تجد في المرض رقة قلب و غفران الذنوب و خلوه بربك: " وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ"
رُمِىَ يوسف في البئر و بيعَ بيع العبيد و هو الحُر و سليل الأنبياء:" وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)} فكانت النتيجة {
"وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)"
و لربما كان في الغمة الخير و في إنكشاف الغمة شر لك ” ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ( 75 )” فانت لا تعرف اين يوجد الخير .وقال الأحنف بن قيس لإبنه: يا بني، إذا أردت أن تواخي رجلاً، فأغضبه، فإن أنصفك وإلا فاحذره.
يقول السباعي ـ رحمه الله ـ: "إحذر ضحك الشيطان منك في ست ساعات؛ ساعة الغضب، والمفاخرة، والمجادلة، وهجمة الزهد المفاجئة، والحماس وأنت تخطب في الجماهير، والبكاء وأنت تعظ الناس."
ويُروى أن هشاماً غضب على رجل من أشراف الناس، فشتمه فوبخه الرجل وقال له: أما تستحي أن تشتمني وأنت خليفة الله في أرضه؟ فأطرق هشام واستحى وقال له: اقتص! فقال: أنا إذاً سفيه مثلك! قال: فخذ عن ذلك عوضاً من المال. قال: ما كنت لأفعل! قال: فهبها لله. قال: هي لله ثم لك! فنكس هشام رأسه وقال: والله لا أعود لمثلها. قال الشاعر:
لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة لا صفح ذل ولكن صفح إكرام
تزيد سفاهه فأزيد حلما كعودا زاده الاحراق طيبا
وقال رجل لعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأتفرغن لك! فقال له: الآن وقعت في الشغل:
من لي بأنسان كلما أغضبته و جهلت كان الحلم رد جوابه
و تراه يصغي للحديث بقلبه و بــسمـعه و لعــلـه أدرى به