أن يرجف المرجفون ممن لا يؤمنون بعلم الغيب و لا بقدرة القادر و لا يفهمون معنى هيمنة الخالق على الكون و من فيه و يلهثون وراء العلم البحثي وحدة و إن كان سراباً فهذا مفهوم. فهم قد قطعوا علاقتهم بخالقهم ف " نسوا الله فنسيهم .." فأمرهم واضح و مفهوم.

و قبل الدخول إلى صلب الموضوع أود التأكيد على أهمية قضية الأخذ بالأسباب و ربطها بالنتائج. و أن ديننا الحنيف و شرعنا المطهر يحث عليها و لكن في الأمور الحياتية و ليس في الأمور الإعتقادية، كالبحث عن الرزق و طلب العلوم و اجتناب المخاطر المنظورة و ما شابه ذلك. و مع ظهور وباء كورونا و كثرة الآراء العلمية و النظريات السياسية عن ماهيته و كيفية إنتشاره و أسباب تركزه في بلدان دون أخرى. عجز الكل عن الإيتيان بإجابات علمية منطقية محددة و واضحة على كل ذلك. كما عجزت مختبرات الدنيا عن ان تنتج علاجاً له أو ترياقاً أو تطعيماً حتى الآن على الأقل !! و هذا ما أوجد حالات من الإحباط و اليأس عند من يصابون به أو يشتبه بإصابتهم به في الغرب خصوصاً، فكثرت حالات ما يسمى بالقتل الرحيم و حالات الإنتحار عند المشتبه بهم و حالات الموت خوفاً و هلعاً منه. و قد سجلت العديد من مراكز الأبحاث حالات تشرح ذلك..

لكن الأمر الذي يبعث على الحيرة و التساؤل هو أمر علماء الدين في العالم الإسلامي و خصوصاً  "الرسميين" منهم الذين يبررون لما يجري من إجراءات رسمية كغلق المساجد و منع صلاوات الجمع و ما يسمى بالتباعد الاجتماعي و لبس الكمامات حتى في المساجد و الجوامع و بأن ذلك إنما هو امتثال لقوله تعالى: " و لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة .."! و يردد القطيع من العوام خلفهم هذا الجزء المقتطع من الآية دون الرجوع إلى قراءة السورة و تفسير الآية. و لم يلحظوا ان هذه الإجراءات لم تمنع انتشاره في دول تعتبر نفسها أكثر تقدماً من دولنا و شعوباً أكثر وعياً منا.

و الواقع أن هذا قول حق أريد به باطل أي ( و لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ! . فالحق هو في تمام قراءة نص هذه الآية قراءة صحيحة كاملة ثم الرجوع إلى تفاسير القرآن المختلفة و معرفة سبب النزول و ما قيل في شأنها. و أما الباطل فهو الإستشهاد المجتزأ الذي وضع في غير محله لتبرير ما تتخذه السلطات في البلدان العربية و الإسلامية من إجراءات قيل إنها تقصد من ورائها حماية المجتمع من انتشار هذا الوباء و الحد منه دون مراعاة لما إذا كانت هذه الإجراءات مخالفة لدين الله عز و جل و هدي نبيه صلى الله عليه و سلم.. و الواقع أن ما يدفعها لذلك هو سياسة القطيع العالمي و الذي رسمته الصين ثم منظمة الصحة العالمية. 

فالآية الناقصة التي يتم الإستشهاد بها  تقول:
" وَ أَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" و هي تتعلق بالحث على الإنفاق و الإحسان. و قد ذكر المفسرون عدة تفاسير لها ليس من بينها ما يتم نشره اليوم بين الناس و إرهابهم و تخويفهم و ترويعهم بما يخص وباء كورونا و ما يصاحبه من إجراءات يبنونها على نص هذه الآية المبتورة المجتزأة.
فقد ذكر المفسرون أن الآية إنما نزلت في جماعة من الأنصار في المدينة. حينما راوا كثرة المسلمين و قوة جيشهم في حروب الجهاد و كثرة إنتصاراتهم، قال بعضهم: لا نريد أن نجاهد في هذه الغزوة و إنما نريد أن نبقى في المدينة للعناية بمزارعنا التي أشغلنا عنها الجهاد في سبيل الله، فأنزل الله تعالى قوله " و أنفقوا في سبيل الله و لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة .." أي أي إنفروا في سبيل بأرواحكم و أنفسكم و لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة بالتخلف عن ذلك الأجر العظيم ( الجهاد ).
و يسند ذلك أنه حين طال حصار القسطنطينية هجم عدة أفرد من الجنود المتحمسين من جيش المسلمين على الحصن الذي يتمترس به جيش الصليبيين و يلقون من ورائه مشاعل اللهب و السهام فقال بعض الجنود المسلمين لبعض: انظروا إلى هؤلاء الذين يلقون بأيديهم إلى التهلكة! فسمعهم الصحابي الجليل ابو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فجاء إليهم و قال: و الله لقد نزلت بنا معشر الأنصار هذه الآية و ليس ما تقولونه هو تفسيرها. و ذكر لهم سبب النزول و هو تشاورهم للتخلف عن الجهاد للإعتناء بمزارعهم دون أن يخبروا رسول الله صلى الله عليه و سلم.
أما التفسير الآخر فهو الذي ذهب إليه عدد آخر من المفسرين و هو الحث على الإنفاق في سبيل الله شرط أن يترك المنفق للأبناء و الأسرة نصيبهم من الرزق. و عدم دفع المال كله مما قد يؤدي إلى هلاك الأبناء و المعولين جوعاً.. بل الواجب الإنفاق بجزء من المال و ليس كله.
أما الذين يخوّفون الناس و يرهبونهم و يرجفون في الأرض فهم على خطر عظيم في إيمانهم. فمن مقتضيات الإيمان أن المسلم يؤمن بالقضاء و القدر خيره و شره. و يؤمن بأن ما يصيبه إنما هو بقدر الله و مشيئته " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .."
و كما قال تعالى: : الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ" فالموت و الحياة و المرض و الشفاء أمر يقدره الله على من يشاء من عباده، فلا العلم و لا الطب و لا الإجراءات التي تتبع برادة قضاءاً قد كتبه الله على عبد من عباده. "قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ"
و ما يتم من إجراءات و منها غلق للمساجد و إيقاف للعمرة و الحج كلها تصطدم بوجوب الإيمان بالقضاء و القدر، و بأن الحافظ هو الله و أن الضار هو الله و أن النافع هو الله. و أن أطباء العالم لو اجتمعوا لمعالجة مريض لن ينفعه علاجهم ما لم يشأ الله له ذلك. و لو أن أطباء العالم أجمعوا على هلاك شخص. لن يهلك ما لم يكتب الله عليه ذلك.
قال صلى الله عليه موصياً عمه العباس " احفظ الله يحفظك. احفظ الله تجده تجاهك، و اعلم لو أن الأمة اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء.. لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. و لوا اجتمعوا على أن يضروك بشيء .. لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"
فالواجب على كل مسلم تصحيح علاقته بربه، و تجديد الثقة بقدرته و مشيئته سبحانه وحده أولاً ثم بفهم معنى الآية ( و لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة) و عدم تأويلها كما يؤلوها الجهلة أو المغرضون.. و كذلك عدم الاعتماد على الكمامامات و التباعد كوسيلة وحيدة للوقاية من هذا الوباء و إبقاء الخوف متحكماً و مسيطراً على نفوس البشر. فمن توكل على غير الله وكله الله إلى ما اتكل إليه. و أما الأخذ بالأسباب فمشروعة و مندوبة كما أسلفنا و ذكرنا. و لكن لا ينبغي أن تَُقدّم على مقتضيات الإيمان بالقضاء و القدر الذي يجب تعزيزه في النفوس قبل أي شيء آخر. فالتحصين النفسي الذي هو جزء أساسي من العلاج الطبي لا يأتي إلا من خلال التحصين الروحي و الإيماني.

"و إذا سألك عبادي عَني فإني قريب أجيب دَعوة الداع إذا دَعان فليستجيبوا لي وَ ليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون"