قال الله تعالى(كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ۚ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ) . [طه:99] .

إن أهم ما يلفت النظر، وإن أول ما يستثير البصر، هو ذلكم الربط المتين بين ذكر قصصه تعالى في القرآن المجيد وبين توحيده تعالى .

وكان من شأن ذلكم أن أثني لها ذكرا، وأن أثلث بها مقاما، وأن أربع بها بيانا، ولا أكاد أسكت!

ذلك لأن ربطا يقينا بين ذكر أمره تعالى بالاعتبار بسننه التي أجراها في ملكوته سبحانه، وبين كونه رب هذا الكون كله، فلا رب سواه، وهو سبحانه إله العالمين، ومنه فلا يسع أحد أن يخرج عما شرع، أو أن يغير أو يبدل فيما حكم .

وهذا هو شأن الرباط الوثيق بين دراسة أمره تعالى لتاريخ قد أورده في القرآن، لإحقاق حق مقتضاه أنه إله العالمين، كما أنه تعالى رب العالمين!

 وتلك خلاصة بدهية، وهي مسلمة تعبدية، ولولا ما قد ارتيناه من خروج عن سبيلها - وغيرنا - لما كان لذكرها من موجب!

ولكنه الاعتبار، ولكنه الاستبصار، ولكنه التذكار.

وهو سبحانه قد أفاض بيانا في كتابه الحكيم وذكره العظيم القرآن الكريم ما يشي أن تكون هذه كلية الكليات،  وأصول الخيرات، وينابيع الهدايات، وكنوز الرشد والإرشادات، إلى خالق الأرضين والسماوات، بحيث لا يكون ثمة ما تتعلق به القلوب سواه، وبحيث لا يوجد من تهفو إليه الأفئدة غيره.

وما ذاك إلا لأنه هو الله تعالى ربنا، وهو الله تعالى خالقنا، وهو الله تعالى رازقنا، وهوالله تعالى ترنيمتنا أبدا ما حيينا، وهو الله تعالى أبدا ما بقي فينا عرق ينبض، أو نفس تجود بين الأضلاع، وما بقيت فينا روح تسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار.

وذلكم كائن، لأنه هو أوجب الواجبات، وذلكم لأن ذلكم هو أحق الحقوق، وذلكم لأنه موجب الشكر، وسند الحمد، وغاية الخلق، إذ كما قال الله تعالى ربنا الرحمن (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).[الذاريات:56].

ومنه أكون قد قلت صوابا، أن ربطا متينا بين قضية الألوهية وبين سائر ما حفل به الذكر المجيد هو غاية مراده تعالى منا نحن العبيد الضعفاء المساكين إلى منه وفضله وجوده وكرمه وعطائه وإنعامه، وذلكم هو أيضا من مقتضى علمنا به عنه سبحانه أنه هو البر الرحيم، لأن ذلك هو مقتضى قوله الصدق المبين أن ألهم عبيدا له كان ظنهم فيه خيرا فقالوا عنه سبحانه بما هو تعالى أهله ( إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ). [الطور:28].

وأن بما قد كان من وصفه لنفسه موجبا على ذات نفسه كرما منه تعالى وفضلا كان من شأنه إحسانه، ومن لطف بيانه، كيما يستشعر أحدنا رغبة إلى فضله، وكيما يطمع أحدنا رجاء منه وجوده وكرمه، ولطفه وهداه، وذلكم حين قد نعت نفسه الكريمة نعتا هو حقها،  ووصفا هو يقينها، فتراه قد أفاض علينا من آثارها، وتراه قد أغدق علينا من عطائها، فقال سبحانه( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ؟! [الملك:14].

وأنه هو الرحمن الرحيم، وأنه هو سبحانه هو الرؤف الرحيم، فتلك بعض من صفاته، وتلك خصلة من نعوته، الهادرة بالخيرات المفعمات بالإحسان، والفائضة بالرحمات، والمفعمة بالرأفات، حيثما حلت معانيها، وبالمغفرة حيثما فاضت مقاديرها، وبالبر أينما كانت آثاره، وبالكرم وقد أينعت ثماره!

والقول بذلك أمر واجب، وحتم أراه ربطا ضروريا بين كونه تعالى قد أمر، وبين كونه تعالى قد ذكر، وبين كونه تعالى قد غمر، بأفضاله السابغة، وبأنواره البارقة المشرقة النيرة الفضفاضة، بكل ما هو جميل يريح متعبا، ويطمئن مرجفا، ويؤمن خائفا!

وذكره تعالى وأمره حيثما نظر إليه من ذلكم جانب حقت السعادة، ووجبت الريادة، واستحقت السيادة، على سائر أممه، وعلى كل خلقه.

وذلكم هو مقتضى تمكينه لمن انتصب أمام أمره، وذلكم هو أثر إعماله لمن حالف منهجه وذكره وأمره ونهيه. وذلك أفهمه من فيوضات ذكره، وذلك أعلمه من معاني قوله(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). [الحج:41].

بحيث قد كان الاستغراق في الدين، وبحيث قد كان الاسترواح بذكر ذي القوة المتين، وهو من حيثيات الملة، شأنها وأصلها وفرعها، فجرت في القلوب جريها في الأوردة، كما هو جريان دمها فيها، حتى كان الثمر البهيج، أنتج عبدا منيبا منيفا، ربه الله تعالى وحده، ومعبوده الرحمن الرحيم وحده، ومحبته له وحده، حتى قد أجاد عليه من بركاته، وحتى قد أفاض عليه من هباته، ومنحه وأفضاله ومنه وجوده وكرمه!

ولاتسألن عن ناكص، ولاتسألن عن مدبر، ولاتسألن عن مستكبر، فهذا كان شأنه الإغراق، وذاك كان حظه الحاصب، وآخر كان نصيبه الإهلاك، وأخوه قد كان حليفه الإستئصال، وخلفه قد كان من هلكته الإعصار بريح صرصر عاتية تدمر كل شيء بأمر ربها، ( سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ). [الحاقة:7].

وذلكم من مقتضى غيرته تعالى أن تنتهك له حرمة، فتراه تعالى منتقما جبارا كبيرا متعاليا، يهلك بعدل، ويدمر بموجب، ويستأصل بسبب، ويغرق بميعاد، ويخسف بقدر، لأنه تعالى هو العزيز الجبار المنتقم المقتدر، إذ كان من جبروته، وإذ كان من قهره أنه أخبر عن نفسه أخذا باقتدار، لكل مكذب كفار، وإهلاكا بانتقام لكل عتل زنيم جواظ! فقال تعالى(كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ). [القمر:42].

وأكرر، وهذا فهمي لسر أمره، وهذا إدراكي لسبب خبره قصصا واعتبارا وإيجابا ونهيا واختبارا!

ومنه فلا حد لقدرته النافذة، إن أراد بهذا خيرا أعطاه، أو قد أراد بهذا أخذا فأمضاه! رحمة ورأفة واستحقاقا لموجبات رحمته، وعدلا وقسطاسا من عظائم جبروته، حينما يكيد له العبيد! ومن ذا الذي له يكيد!؟ وهو الذي قال عن نفسه (وَأَكِيدُ كَيْدًا) . [الطارق:16].

ذلكم الكيد كله إذا أراده، وذلكم الأخذ كله حين أوقعه، وذلكم النكال جميعه إذا أمضاه، فأخذه أليم شديد، وعقابه موجع عظيم.

كما أن جزاءه ماء بارد عذب زلال،  يروى ظمآنا، ويغيث عطشانا، وكما أن رحمته تعالى قد سبقت غضبه، حينما كان لها استحقاق، فتراه رحمانا رحيما، على قدر ما تكون الرحمة واجبة، وعلى قدر ما تكون الرأفة مستحقة، ففيضهما منهمر ، وظلهما  وارف ظليل!