أنهكنى الصوم، فجلست أمارس هوايتى فقرأت القليل من الأدب الإنجليزى... لكننى غفوت قليلاً، ورأيت حلماً جميلاً ...وكأنى بطارقٍ يطرق بابى بلطف. فسألت :" من الطارق؟" فقال: "صديق يبتغى نُصحك وإرشادك." لكننى لم أتعرف على وجهه، ووجدت حرجاً أن أساله كيف يقول أنه صديقى وأنا لا أعرفه!! وبعد تفكير لم يستغرق ثانية واحدة، وقبل أن أنطق بحرف،أستطرد حديثه قائلاً: "أعلم أنك لا تذكرنى...لكننى صديق أتى إليك عبر سنوات طويلة مضت حباً لك ونصحاً، ذلك لأنك تعشق الأدب الإنجليزى مثلى". فأخبرته أن هذا تخصصى ودراستى، وأنى أجد نفسى بين سطور أدبائه وبين أبيات شعرائه، وأشعر كأنى أعيش بينهم رغم أنهم غادروا عالمنا منذ سنوات ليست بالقليلة. فقال: "أنا أحدهم...أنا روح أحدهم." فسألته مرتجفاً: وما الذى أتى بك عبر الزمان إلى بلاد العرب، عبر كل هذه السنوات الطويلة؟ ولماذا إخترتنى أنا؟! فقال: " أخبرتك أنى ناصحاً ومؤيداً لك فلا تخف، فأما عن نصيحتى فأريدك أن تعلم أن لا أحد من الأدباء ،كان أو سيكون، يمكنه الغوص لإدراك أعماق بحر الأدب فكلنا مجتهد، وكلنا له نظرته الخاصة به التى تميزه، وجميعنا نرقى بتكاملنا وتعاوننا لا بتناحرنا فأنا وأنت وهذا وذاك (غواص فى بحر الأدب) فلا تتعجل النجاح وتعلم حتى أخر لحظة بحياتك".
وأكمل حديثه فأضاف : " وأما عن سبب زيارتى لك فى بلادكم بلاد العرب ،فلأنكم أحوج الناس بالنصيحة الثانية وعليكم أن تتحلوا بالصبر والدعاء فى زمن الجائحة...وما الغريب وما المخيف ؟ هذه سنة الله فى أرضه ... فلكل عهد جائحته ومعاناته...فقد خُلِقَ الإِنسانُ فى كبد. وبدأت أشعر بالأمان تجاه هذه الروح الطيبة ، لكننى ما زلت لا أعرفه. وكأنه قرأ أفكارى فقال: "الروح كالماسة في الجسد، يجب أن تصقل كي يشع بريقها... أنا روائي إنجليزي ...أنا من نال شهرة عالمية كبيرة بفضل مؤلفاته الروائية وأبرزها ، وروبنسون كروز ” Robinson Crusoe”.، مول فلاندرز “Moll Flander”. أنتجت ما يقارب من 200 عمل في الأدب الواقعي و 2000 مقالة قصيرة . شاركت في الكثير من الصفقات التجارية ، ولكن معظمها كانت خاسرة ، وهذا ما جعلنى أتعرض للإفلاس ومطالبة الدائنين. وانتهى الأمر بإشهار إفلاسى عام 1692م ، وفي عام 1703م إبتعدت تماما عن التجارة ، وقمت بتغيير اسمى لاحقا من دانييل ليصبح دانييل ديفو ، إعتقادا منى أنه يوحي بنبالتى. ألفت الكثير من الكتابات التي كان بعضها يتحدث عن المسائل السياسية ، مما أدى إلى إتهامى بالتشهير وسجنى ، ومن هنا تغيرت أعمالى وتحولت إلى تأليف الروايات الخيالية. وكان من أشهر مؤلفاتى كتاب ” The True-Born Englishman”.
فاستيقظت من غفلتى وبدأت أبحث فى مكتبتى عن ديفو الروح الطيبة. ووجدت أنه في عام 1719م ، اتجه ديفو إلى مجال أدبي مختلف ، حيث نشر روايته روبنسون كروزو. واستمر ديفو بعد رواية “روبنسون كروزو” في نشر العديد من الروايات التي تميز أبطالها بالشر والإحتيال ، وأبرزها “مول فلاندرز Moll Flanders”، و”الكولونيل جاك Colonel Jack”، و”كابتن سلنجنتون Captain Singleton” وغيرها
فراقنى البحث والكتابة عن “مول فلاندرز" Moll Flanders. ووجدت أنه كان جرىء بأفكاره، فى محاولة منه أن يكشف عيوب مجتمعه بغية الإصلاح وليس التشوية أو الهجوم. لكن تم حظر كتاب دانيال ديفو الكلاسيكي من الرواية المبكرة بموجب قانون كومستوك الفيدرالي لعام 1873. قانون تم تصميمه لمنع بيع المنتجات أو المواد التي تعتبر فاحشة ، تم حظر مول فلاندرز جنبا إلى جنب مع وسائل منع الحمل والألعاب الجنسية. فقد أُعتُبٍرَ تأثيرها على الجنس خارج إطار الزواج ، والزنا والسلوك الإجرامي فضيحة للغاية بالنسبة لسكان أمريكا ، على الرغم من انتهاء الرواية حيث تعود مول إلى إنجلترا في التوبة عن خطاياها.
فكان ديفو بعيداً عن التكلف اللفظي قريباً من لغة رجل الشارع البسيط وتجلى هذا الأسلوب في رواياته. ألف ديفو روايته الأشهر "مول فلاندرز" عام 1722، ونظرا لحداثة الرواية في ذاك العهد وعدم تقبل الناس لأدب الخيال ، عمد دانييل إلى استهلال روايته بمقدمة أكد فيها بأن ما يرويه هو قصة حقيقية مستمدة من واقع الحياة. والسرد في العمل يعود إلى البطلة مول التي تؤكد أنها لن تصرح باسمها الحقيقي كي لا تكشف هويتها ويتم التعرف عليها. وهي بحسب ما يذكره المؤرخون إحدى النساء المسجونات اللواتي التقاهن ديفو أثناء عمله الصحفي.
تبدأ الأحداث من الزنزانة التي ولدت فيها مول قبل ترحيل أمها المحكومة بتهمة السرقة إلى مزارع فيرجينيا في أميركا، ومن المتعارف عليه حينها أن عقوبة السرقة هي الإعدام أو الترحيل إلى فيرجينيا. ومول التي تربت بين الغجر ثم في كنف ممرضة، أجبرت على العمل في الخدمة بعد وفاة معيلتها وكانت في الثامنة من عمرها. في منزل بيت المحافظ تعلمت الكتابة واللغة الفرنسية وكل ما تتحلى به فتاة الطبقة الراقية في المجتمع، وسرعان ما تزوجت من الابن الأصغر بعدما ربطتها علاقة حب بالأخ الأكبر الذي تخلى عنها حفاظا على ميراثه.
تعيش مول بعد الزواج حياة مستقرة وتنجب طفلين إلا أن وفاة زوجها بعد مضي خمس سنوات، يدفع العائلة إلى أخذ الطفلين ومنح الأرملة مبلغا من المال لتبدأ به حياتها. وهكذا تبدأ مول بالبحث عن زوج جديد يكفل لها حياة مريحة مرفهة، ولتحقق أمنيتها تدعي بأنها أرملة ثرية.
تلتقي مول بتاجر نبيل يدعي هو الآخر الثراء ، الا ان الزوجين يكتشفان بعد الزواج إنهما كانا يمارسان الخداع على بعضهما البعض وكان الفقر يلاحق كليهما ، ولكنهما عاشا معا حياة مرحة وذهبا في رحلات برفقة النبلاء ، وحينما تراكمت الديون بشكل يفوق الاحتمال طلب زوجها منها الهرب أسوة به قبل أن يبدأ الدائنون بمطاردتهما متمنيا لها حياة سعيدة.
وبعد مضي زمن قصير تنشأ صداقة بينها وبين أرملة قبطان تستضيفها وتعلمها سبل الحصول على زوج ثري، وتبين لها واقعية الحياة الزوجية المبنية على المال قبل الحب. وتبدآ بالتخطيط لمؤامرة الزواج من ثري. تنجح الخطة وتلتقي بشاب أرستقراطي سمع عن ثروتها، ولكن دهاء مول حال دون خداعه حيث كانت تخبره عن حقيقتها بشكل موارب الى ان أوقعته بحبها و تعلقه بها ، فكلما أكد حبه لها كانت تعترف له بأنه يحب إنسانة فقيرة لا مورد لها.
وهكذا حينما تأكد من تلك الحقيقة بعد الزواج تقبل الأمر ووافقت على السفر معه إلى مزارع عائلته في فيرجينيا، وعاشت هناك مع والدته وأخته وسرعان ما تكتشف الحقيقة الصاعقة والمرة بأن والدة زوجها ما هي إلا والدتها وعليه يبطل زواجهما. تترك مول طفليها في عهدة والدتها وتعود إلى لندن بعد ثمانية أعوام وقد فقدت ما حملته معها خلال عاصفة بحرية. وفي نزل تتعرف على رجل متزوج تعيش زوجته في مصحة عقلية، وبعد صداقة قصيرة تعيش معه لمدة ست سنوات وتنجب منه ثلاثة أطفال، وبعد أزمة صحية يتوب الرجل ويقطع علاقتهما.
وبدأت رحلة البحث من جديد مع إدراكها بأنها تجاوزت الأربعين، وتلتقي برجلين أحدهما في الشمال أعزب والآخر في لندن وعلى وشك الانفصال عن زوجته. تتزوج من الأعزب ليكتشف كل منهما خدعة الآخر فيفترقا، لتعود وتتزوج الثاني وتعيش معه خمس سنوات وتنجب طفلين. وبعد وفاته، تترك الطفلين في عهدة عائلة ريفية، وتتحول إلى لصة محترفة تجمع ثروة كبيرة. وعند القبض عليها تلتقي في السجن بالزوج الثاني الذي أحبته، وعند ترحيلهما معا إلى فيرجينيا يبدآن حياة جديدة ويصبحان من الأثرياء ليعودا في نهاية المطاف إلى لندن ويستقران فيها.
حظوظ ومصائب مول فلاندرز الشهيرة، التي ولدت في نيوغيت، وخلال حياتها المتنوعة لستين عاما، بالإضافة إلى طفولتها، كانت عاهرة لاثني عشرة سنة، زوجة في خمس مرات (وفي مرة منها من شقيقها)، لصة لاثني عشرة سنة، مجرمة نقلت لإلى فرجينيا لثمان سنوات، وفي النهاية أصبحت ثرية وعاشت أمينة، وماتت نادمة. كما كتبت من مذكراتها الخاصة. وتستند الرواية جزئيا على حياة إليزابيث لأدكينز المعروفة باسم مول كينغ، وهي مجرمة من لندن التقى بها ديفو أثناء زيارته سجن نيوجيت.
إن ما يميز رواية «مول فلاندرز» بعنوانها الفرعي (أيامها السعيدة والتعيسة)، هى مقدرته على مشاهدة المساحة الرمادية التي تفصل بين الملاك والغانية، وهو أمر لا يمكن استيعابه بسهولة من قبل الأغلبية حتى في يومنا هذا. وصور دافو في عمله واقع المرأة في تلك المرحلة حيث لا تتوفر لها حياة كريمة إلا في كنف والدها أو أحد إخوتها أو في بيت زوجها.