من أصعب ما يمكن أن تعيشه هو أن تكون مرافق لمريض في مستشفى حكومي في قسم النساء ، حيث أنه ليس بإمكانك اختيار الجيران الذين في الأسّره و المرافقين ، كحال الاقارب الذين وجدت نفسك بينهم دون خيار ، ومعنى أن تكون في قسم النساء هو أن تكون في عالم مليء بالثرثرة المقيتة ، الوصية الأولى التي همست بها لنفسي : " التزمي الصمت و لا تسمحي لأحد أن يقتات على وجعك بنيّة الثرثرة ، باختصار كوني فجّه ، اللطف ليس جيدا في هذه المواقف " ، في اليوم الذي أتيت فيه مجبرة كمرافقة بديلة عن أختي التي رافقت لمدة يومين،  جلست منهاره على النصف سرير الموجود جانب سرير أختي المريضة أفكّر في البرد و الكأبه و الخوف ، و ليس معي سوى مصحف و جهاز تابلت مليء بالكتب  و هاتفي الذكي، و بينما أنا على تلك الحال أحاول أن أستجمع شجاعتي ، جاءتني سَيِّدِه سمعتها تثرثر من خلف الستائر وهي تمّر على الأسرّه و تسأل المرافقات عن المرضى المرافقين معهم و تثرثر بقصتها البائسة ، بادرتني بالسؤال السخيف و هي تشير إلى أختي بلهجة فجّه مليئة بالشفقة : "اش فيها ؟" رددت بفجاجة مليئة بالبغض : "تعبانه زي ما انتِ شايفة ، يعني اش فيها يعني !!  ولو سمحتي روحي من هنا سيبي الناس في حالها و انشغلي في نفسك " .. وقفت مشدوهة و لم تستطع النطق بنصف كلمة و راحت مبهوتة لا تلوي على شيء ، و تنفستُ الصعداء . . وفي وقت متأخر من الليل و بينما أنا أقرأ سمعت صوت سَيِّدِه تتكلم بهلع لسيّدة أخرى في الجوار  قائلة : "مدري اش فيها أمي ما ترد عليّ" ، أشارت عليها السيدة الأخرى باستدعاء الممرضة ، وجاءوا الممرضة و الطبيب و فريق الانعاش القلبي تباعا ، و السيّدة في هلع تتحدث عن مخاوفها للسيدتين المستيقظتين في الغرفة -باستثنائي- واللتين إجتمعتا حولها، ثم جاء رئيس فريق الانعاش القلبي وقدّم نفسه بلباقة لها و نقل لها خبر وفاة والدتها كما يفعلون في المسلسلات تماما ، و طلب منها أن تتصل بالرجل المسئول عن والداتها ، كانت ردة فعلها مبكية و وسط حزنها وصدمتها و خوفها فكرّت بالاتصال بأخيها ، لم تكن تملك هاتف ، كانت معها ورقة صغيرة كُتب فيها الرقم ، أحضرتها و سألت السيدتين اللتين برفقتها عن إمكانية الاتصال من هاتف إحداهن ، الاولى لم تكن تملك هاتف ، الثانية كان هاتفها بلا رصيد ، حينها وقد سمعت كل هذه التفاصيل و عشتها بخوف و حزن خرجت من خلف الستارة أمد هاتفي ناحيتها : "خدي اتصلي من عندي" ، المحزن أنها لم تكن تعرف ذلك و أخذتُ الرقم  منها و أتصلت لها و ناولتها الهاتف ، تحدثت بصوت مرتجف لأخيها ولم تخبره بالخبر بل قالت أن والدتها مريضة جداً ، أعادت لي الهاتف و مضت .. ثم جاء أخيها وتتابعت التفاصيل المحزنة التي تتكرر بعد كل موت ، و عشتها رغما عنّي ، و عرفت الكأبه و الخوف والبرد الذي كنت أفكّر فيهم حين أتيت هذا المساء ، و كنت منهارة بشكل لا يصدّق ، بكيت ، و طلبت من الله أن يهدهد خوفي ، و صمتُ ذلك اليوم دون سحور فقد كنّا وقتها في شهر رمضان ، نسيت أن أقول لكم أن السيّدة التي توفيت والدتها هي تلك السيدة التي جاءتني في المساء تثرثر فطردتها بفجاجة ، أعترف أنني بعد حدوث كل هذه الأشياء المحزنة  وحين كنت أبكي تذكرت فجاجتي مع السيدة فخجلت من نفسي و ندمت أشدّ الندم ، لم أؤذي أحدا من قبل ، وكنت أحرص على اللطف كي لا أوجع أحدا أو أجرحه ، لكن ذلك اللطف الذي قدّمته للآخرين عاد عليّ بالأذى في أوقات كثيرة ، لذا فيما بعد صرت أستبدله بالفجاجة كلما لزم الأمر ، أدركت أن الفجاجة كانت في مكانها ، لكن كان بإمكاني أن أصبر و أخرج بذكاء من الموقف و أهرب من تلك الثرثرة دون أن أوذي أحدا بفجاجتي ، كان ذلك ممكنا لكني لست ملاكا و لست أتقن التعامل بذكاء في كل الأوقات ، أو لربما لا يناسبني الآن أن أكون بكل ذلك اللطف الذي حملته معي عمرا ، ربما أحب خيانة الذكاء لي في أوقات كثيرة . . ربما آن الآوان لأن أتركني أتعلّم من دروس الحياة دون تدّخل مني . .