(عندما تموت وتكون آخر من يعلم !!)
***********
حينما متُّ منذ ما يزيد عن 120 سنة مضتْ لم أكن أدري بأنني قد متُّ !، فلم أشعر حينها بأنني بِتُّ ميتًا ! ، ولا أحد اخبرني بأنني متُّ ، فقد كنت آخر من يعلم !!.... كل ما هنالك أنني لاحظتُ فقط أن نظرة كل من حولي لي قد تغيرتْ 180 درجة!، فمن بعد ان كان الجميع يُولوني اهتمامًا خاصًا واحترامًا كبيرًا وبعضهم كان يقف احترامًا لمقامي إذا مررت بقربه وهو جالس، فجأةً وجدتُ أن كل ذلك الاهتمام والاحترام صار هباءً منثوراً!، حيث شعرتُ بأن كل هؤلاء الذين يحيطون بي من كل جانب لم يعد يعنيهم أمري!، كما لو انني اختفيتُ من امامهم وتحولت إلى شبح غير مرئي أو إلى ميكروب لا يكاد يرى بالمجهر الالكتروني!، حتى زوجتي واولادي لاحظتُ بأنهم اصبحوا يتجاهلونني فجأة كأن شيئًا لم يكن!، وزوجتي التي كانت تهتم بكل صغيرة وكبيرة في حياتي وطريقة ملابسي لم تعد تهتم حتى بالإجابة عن سؤالي الموجه اليها كل صباح عن ما هي ربطة العنق المناسبة للبدلة التي ارتديها في ذلك الصباح!؟ ، فهي كحال الآخرين لم تعد على طبيعتها التي عهدتها عليها من قبل!، فقد اكتشفت بأنها لم تعد تعيرني اهتمامها بل وتظل ساهمة العينين شاردة الذهن تنظر في الفراغ كما لو انني بت جزءا من ذلك الفراغ اللانهائي المجهول الذي كانت تحملق فيه بحزن وضياع!!، هكذا بدأت اتفطن إلى كل ذلك التغيير الذي اعترى سلوك كل من حولي في بيتي وفي مقر عملي!، بل حتى بواب وحارس العمارة التي تقع شقتي الفاخرة فيها، والذي كان طوال الفترة الماضية يودعني ويستقبلني دائمًا بشكل حار وابتسامته العذبة لا تغادر محياه هو الآخر اعتراه ما اعترى الآخرين من تغيّر مفاجئ ولم يعد يعيرني أي اهتمام، بل ولم يعد يلقي عليَ حتى السلام!!.
لقد كان ذلك الانقلاب في سلوك محيطي الاجتماعي يُحيرني ويكاد يطيح بعقلي، ولم اجد تفسيرًا يومها لكل ذلك الانقلاب وكل ذلك البرود وكل تلك اللامبالاة سوى أن كل ذلك حدث عقب خسارتي المؤلمة للانتخابات في المؤسسة الحكومية العريقة التي كنت أجلس على كرسي قمة هرمها، تلك الخسارة المريرة التي رجعت من بعدها كما كنت في سالف الأوان موظفًا في الطابق الأرضي في قسم الارشيف!!، هذا هو التفسير المنطقي والمعقول والوحيد الذي توصلت إليه كسبب في كل ذلك الانقلاب الكبير في سلوك من حولي ناحيتي وتلاشي كل ذلك الاهتمام والاحترام الحار الذي كانوا يولونه لي!، إنه كرسي السلطة وما يرتبط به من نفوذ وهيلمان وتأثير على الآخرين!، فما إن خسرتُ تلك الانتخابات حتى تحولتُ، بقدرة قادر وجرة قلم، من عملاق مهاب يقيم له الجميع الف حساب إلى قزم صغير وحقير تزدريه العيون!، بل إلى ذرة هباء لا يلحظها احد حتى أقرب المقربين!!.....
هكذا فسرتُ يومذاك كل ذلك الانقلاب الذي حدث وكل تلك اللامبالاة التي اجتاحت كل من حولي حيالي!، فعندما تهوي من هرم السلطة تظل العيون معلقة بمن سيحل محلك هناك في قمة الهرم على ذلك الكرسي الكبير ولن يلحظ احد وجودك ولن يبالي احد في أي حفرة سقطت!، لذا وقد ظننتُ يومها أن هذا هو السبب الحقيقي في كل ذلك الانقلاب الاجتماعي الذي حدث حولي حيالي فإنني ابتلعت تلك المرارة في صمت ثم وللتغلب على شعوري بالخسارة والنبذ والتهميش واللامبالاة ركزتُ جهدي ووقتي في تلك الحفرة التي تم نقلي اليها اثر سقوطي في الانتخابات!، أقصد حفرتي في الطابق الارضي السفلي في قسم الأرشيف..... لكن هذا الوضع لم يستمر طويلًا ، فقد زارني ذات مساء في حفرتي تلك وأنا منهمك في تقليب و ترتيب الملفات القديمة المغبرة شخص غريب المظهر وغريب الاطوار!!، شخص دلف لغرفة الارشيف بشكل مفاجئ وبصحبته رجلان يرتديان زيًا غريبًا يشبه ملابس رجال الشرطة لبلد آخر غير بلدي!!، قال لي باقتضاب: (مرحبا)، ثم اشار بيده لمرافقيه وطلب منهما الانتظار خارجًا مردفًا: " اذا احتاج الامر لكما فسأنادي عليكما!!" فامتثلا للأمر ووقفا مُتسمريْن خارج الغرفة عند الباب بطريقة تشبه لوقفة الجنود ورجال الحراسة!..... وأخذ ذلك الشخص يرمقني بنظرات صارمة ولكن بدون عدوانية ثم انطلق بكل هدوء يشرح لي (الموقف)!!، الموقف الذي وجدت نفسي فيه منذ سقوطي في الانتخابات وفقداني لكرسي رئاسة المؤسسة وكيف انني لاحظت بعدها أن جميع من حولي، بمن فيهم افراد عائلتي واصدقائي، باتوا لا يبالون بوجودي وكأنني اختفيت من امام عيونهم فجأة!!....أخذ ذلك الزائر الغريب المظهر، غريب الاطوار، يشرح لي، بهدوء غريب، حقيقة ما انا فيه من غرابة!!، ولكن ما ذكره لي كان أمرًا لا يصدق إلى درجة خلت بأنه رجل مجنون فر لتوه من المستشفى المجانين!، ولهذا، وبالرغم من كل البؤس والاحباط الذي كنت أعاني منهما منذ يوم سقوطي في تلك الانتخابات المشؤومة، وحيال ما ذكره لي هذا الزائر الغريب، وجدت ضحكة انطلقت من اعماق صدري بطريقة انفجارية لا إرادية، ضحكة لا تخلو من السخرية والمرارة بسبب ما ذكره لي ذلك الزائر الغريب، فهو وبكل برود عجيب أخبرني بأنني رجل ميت!!، اجل، قال لي ذلك بكل برود وبكل جدية، ميت منذ عدة اسابيع وأن جثماني يقبع هناك تحت تراب مقبرة المدينة لكنني، نتيجة خلل ادراكي، لم اشعر ولم أعلم بموتي بعد!، اخبرني بأنني في يوم خسارتي الانتخابات أصبت بجلطة دماغية نُقلت على اثرها للمستشفى وظللت طوال شهر كامل في غيبوبة تامة في غرفة الانعاش ثم قرر الاطباء فصل اجهزة الانعاش الاصطناعي بعد أن تأكد لهم بأن روحي قد فارقت وغادرت جسمي بالفعل!!......
هكذا قال لي بينما أنا كنت احملق فيه في ذهول واستغراب خصوصًا حينما عرّف عن نفسه بأنه الموظف المختص في مؤسسة استقبال الموتى في العالم الآخر!، وأن وظيفته كمساعد لملك الموت تتخلص في مساعدة بعض من يموتون من حيث لا يشعرون في ادراك واستيعاب وضعهم الملتبس!، أي الاشخاص الذين تفارق أروحهم اجسامهم لكن تظل هذه الارواح تمارس نفس سياق حياتهم اليومية المعتادة معتقدة أنها لا زالت على قيد الحياة في وسط الأجسام التي انبثقت فيها منذ نشوء بذرة الجنين في الارحام!!، ولا تدرك بأن تلك الاجسام باتت تحت التراب في المقبرة!.. قال لي ذلك وهو يحدثني بهدوء كما لو أنه يريد التخفيف من هول الصدمة ثم تابع: " بكل تأكيد أنك لاحظت أن لا احدا بات يلاحظ وجودك خلال كل الايام الماضية !؟ والسبب أنك مجرد شبح لا غير ، اقصد أنك تعيش بروح ولكن بدون جسم، لذا لا احد من البشر يلحظ وجودك ، حتى افراد عائلتك واصحابك بكوا لفراقك كثيرا وأودعوا جثمانك القبر وودعوك ثم رحلوا إلى بيوتهم، ولكن كما تعلم أن الحياة الطبيعية لابد أن تستمر ، لذا، شيئا فشيئا، اخذوا يتأقلمون مع فاجعة وفاتك حتى عادوا الى حياتهم الاعتيادية، بينما انت، ميتهم وفقيدهم الذي واروا جثمانه الثرى، ولهول الصدمة، ظللت بروحك تمارس حياتك اليومية السابقة معتقدا بأنك لا زالت على قيد الحياة!، وفي الوقت ذاته ظللت تشعر بذلك الانقلاب الاجتماعي الغريب حيث لا احد يلحظ وجودك الحسي كأنك غير موجود وغير منظور وحسبت أن سبب ذلك التبدل في احوال من حولك هو خسرانك كرسي ادارة المؤسسة التي كنت تعمل كرئيس لها، بينما السبب الحقيقي الذي عجزت عن معرفته هو أن جسمك الذي تتعامل به في العالم المحسوس بات في بطن المقبرة!.. حالة نادرة ولكنها تحدث لشخص واحد كل 100 عام!!" .
قال لي ذلك ثم أخذ يتأملني بهدوء ثم أردف: " ومهمتي هي أن اساعدك على استيعاب هذه الحقيقة المريرة والتعايش معها والالتزام بنظام الموتى الصارم!"، قال لي هذا ثم سكت بصمت عميق ثم اردف: "أقصد أنه يجب عليك المكوث في قبرك بجوار جسمك حتى يحين يوم القيامة!" ..... عند هذه اللحظة شعرت بذعر شديد لأنني أدركت فجأة بأن كل ما ذكره لي هو عين الحقيقة!، فقد تذكرت فجأة كل ما قد نسيته بسبب تلك الصدمة القاسية التي نتجت عن خسارتي للانتخابات ورئاسة المؤسسة!، تذكرت لحظة عودتي للبيت اجر من خلفي أذيال الخسارة والهزيمة وكيف أن زوجتي وأولادي استقبلوني بعيون مواسية عطوفة، وأخذوا جميعهم يحاولون، بعبارات بدت لي مصطنعة، تصوير خسارتي لوظيفتي تلك كما لو انها نعمة وأن تلك الوظيفة الكبيرة والعليا كانت حملا ثقيلا ارهق كاهلي وحان لي أن انعم بالراحة والهدوء والاستجمام!!، وهو مجرد كلام فارغ !!، فقد كانت وظيفتي تلك وما ارتبط بها من نفوذ وهيلمان هي كل حياتي ، وقبلها كانت هي حلم حياتي!، ولم أكن اشعر البتة بأنها حمل ثقيل بل كنت أشعر بأنها (بساط سحري) حملني لعالم الكبار وعلية القوم!، وبسقوطي من على ظهر ذلك البساط السحري الطيار سقطت ارضا وتهشمت كل أحلامي وعدت كما كنت مجرد فأر وضيع يعمل في الطابق الارضي كفأر من فئران حفرة الارشيف المعتمة والبالية!!.... نعم، تذكرت كلماتهم تلك وتذكرت كيف أنني بدأت احس بألم شديد في صدري وبصداع رهيب في رأسي ثم ما لبثت أن شعرت بالدنيا من حولي تنسحب بعيدا عني ثم لا شيء!!، ليس سوى فراغ طويل ومريب!!......لأنتبه لنفسي ومصيبتي على صوت كلمات هذا الزائر الغريب التي دقت جرس الانتباه لروحي، ونبهتني لحقيقة ما حدث لي!، فأنا مت منذ عدة اسابيع وشبعت موتا ولكنني لهول الصدمة كنت آخر من يعلم بموتي!!، فعائلتي واصدقائي حملوا جثماني إلى المقبرة بينما ظلت روحي تعاني من فقدان الذاكرة ولا تستوعب ما حدث!، وأخذت تمارس نفس حياتي اليومية الجسمانية العادية السابقة كأن شيئا لم يكن!، ظلت روحي تهرب من مواجهة الحقيقة المرة المتعلقة بنهاية الآلة و(المركبة) التي كانت تمتطيها وتمارس من خلالها وجودها الحسي والاجتماعي، اي جسمي الذي اصابه عطب خطير مفاجئ بسبب جلطة دماغية فتوقف عن العمل بشكل تام، وعجز الاطباء عن اصلاحه واعادته للعمل!، فظلت روحي عالقة في عالم البرزخ وانقطع وجودها الحسي المرئي والملموس!!..... وعند هذا الحد وجدتني استسلم لهذه الحقيقة المرة ، اي حقيقة انني رجل ميت فقد حياته بسبب تعلقه بكرسي دوار كبير وفخم، كرسي دوار فقده ذات نهار وصار لغيره!، رجل عاشق للسلطة مات من حيث لا يدري وبات مجرد شبح مسكين تائه لم يجد طريقه الطبيعي نحو قبره برفقة جثمانه!، ، أي كما قال لي هذا الشخص أو الملاك المختص: (حالة نادرة ولكنها تحدث لشخص واحد كل 100 عام !!) ... فنظرت إلى ذلك الزائر الغريب بشيء من الوجل وقلت : "وماذا علي الآن أن أفعل!؟ هل اظل اعيش كشبح هائم على وجهه إلى يوم القيامة !؟"، اجابني بصوت عميق وصارم: "لا طبعا !!، سنساعدك للعودة الى قبرك ولكن في الوقت ذاته سنشدد الرقابة عليك لمنعك من الخروج من قبرك حتى تتعود تدريجيا على المكوث فيه إلى يوم الخروج الكبير!، فلدينا حرس خاص في كل مقبرة مكلفون بهذه المهمة وللتعامل مع مثل هذه الحالات الخاصة والنادرة!"، قال لي ذلك بكل هدوء كموظف يشرح الاجراءات الروتينية الواجب الالتزام بها في مؤسسة للخدمات العامة!، وبالرغم من غرابة هذا الموقف وشعوري بالفجيعة بعدما علمت بخبر وفاتي الا أنني وجدتني ابتسم في مرارة ثم قلت: "هذا يعني ان قبري هو بمثابة سجن وحبس لي حتى يوم القيامة!؟"، فارتسمت ابتسامة خاطفة على شفتيه لكنها سرعان ما تلاشت كومضة برق وقال: " نحن نطلق عليها في مصطلحات وظيفتنا عبارة الاقامة الجبرية!"، وعند هذا الحد اخلدت للصمت المطبق ولم أنبس ببنت شفة فقد أدركت بأن هذه هي حقيقة وضعي وموقفي بالفعل!، وظللت في صمتي المطبق هذا للحظات، ثم ما لبث هذا الزائر العجيب أن أشار لذينك الرجلين القويين الشديدين فإذا بهما يتقدمان نحوي ثم يقتداني من ذراعي بهدوء ولكن بشكل صارم نحو مقبرة المدينة!، ليضعاني في قبري مع جثماني المتحلل والمتعفن، لأصبح قيد الاقامة الجبرية حتى يوم القيامة !!.
****
سليم نصر الرقعي
(*) سأحاول هنا في هذه القصة تطوير قصة قصيرة كتبتها ونشرتها سابقا عن رجل يهرب من قبره كل مساء خلسة من وراء ظهر حرس المقبرة ليزور بقايا عالمه القديم ، يتجول في بقايا مدينته القديمة التي دمرها الزلزال ، يتذكر هناك ايام طفولته وشبابه ورجولته وزواجه واطفاله ، ثم يأخذ في البحث عنهم ، فهو لم يجدهم في المنطقة التي يعيش فيها في قبره ، تلك المنطقة الرمادية التي تقع بين عالم الاموات وعالم الاحياء أو كما يسميها البعض بالبرزخ أو مرحلة الانتظار ، سأحاول تحويل تلك القصة القصيرة التي كتبتها سابقا الى ما يشبه المذكرات، لكنها مذكرات ويوميات رجل ميت يخرج كلما سنحت الفرصة من قبره بحثا عن بقايا عالمه القديم عندما كان حيا !! وسأحاول أن يكون كل فصل من فصول المذكرات يصلح لأن يكون قصة قصيرة بذاته ، بمعنى أنه يصلح للنشر بشكل مستقل كقصة قصيرة، ربما !
سليم 2020