Image title

تميم التميمي

@tmt1989

هل يرد الدعاء القدر؟

في رمضان من كل عام أتذكّر تلك الحادثة الكئيبة التي واجهت سنة ٢٠١٢ م وفي آخر فصل دراسي لي رسبت بمادة، وكنت وقتها قد قُبلت في وظيفة وكانوا بانتظار الوثيقة لأباشرها، لكن أنا رسبت، كيف؟!

في تاريخي الدراسي كلّه لم يسبق لي أن رسبت، قالوا لي مقدّر ومكتوب.

تخيّلوا معي، أن تكون طالباً يعيش آخر أيامه في كلية الهندسة، وبمعدل جيد جيداً، تأتيك مكالمة في الإسبوع الثاني من الاختبارات النهائية من واحدة من أعظم الشركات في الرياض لتخبرك بأن هناك عرض مالي سخي جداً في بريدك الإلكتروني ينتظر موافقتك الكريمة.

أنا للحين ما تخرجت، أخبرت موظف الموارد البشرية اللطيف جداً على عكس البقية ممن يشغلون هذه الوظائف -أعتذر- لكن معظمكم هكذا، فرد عليّ برد أحسست معه أنني أحد عباقرة الهندسة: ميخالف تميم ننتظرك تجيب الوثيقة وترتاح أسبوعين ثلاثة بالكثير وتباشر، من قدك؟

إي والله من قدي.

لكن ما حدث صيف تلك السنة أصابني بصدمة قوية وفتّاكة، أن ترسب أي أن تضيع فرصة العمر هذه، سأتأخر عن أقراني، سأضطر لانتظار الصيف كاملاً لاستحالة نزول هذه المادة في الفصل الصيفي، ثم أدرس مادة واحدة في فصل دراسي يمتد لأربع أشهر وأبحث عن وظيفة أخرى هي لن تبحث عني كما يحصل الآن.

دعوني أتوقف لأتحدث عن هذه المادة قبل أن أكمل ماذا حدث بعد ذلك، كان مقرراً في حل المشكلات الإدارية والهندسية، ليس فيه اختبارات فصليّة أو نهائيّة، بل تقييم مستمر لمدى براعة الفريق المكوّن من ثلاث طلاب في حل المشكلة، فالنجاح نجاح للفريق والعكس صحيح.

وكان يفترض بي أخذ هذا المقرر في السنة الثانية ولكن لقدرٍ ما أُقفلت جميع الشعب ولم تتوافق مع جدولي الدراسي إلا في فصلي الأخير في الكلية.

أوقعني سوء حظي مع اثنان كانوا هم الأسوأ، ليس في كلية الهندسة فحسب، بل في التاريخ البشري ككل، صعاليك كالسليك وتأبط شرا، بل هم أشد.

لا زلت أذكر في اللقاء التعريفي الأول حين أخبرتهم أنني خريج هذه السنة، فالتفت الأول على الآخر: أوه أجل هالتميمي هو اللي يبي ينجّحنا ارقد وآمن يا فلان!

وبالفعل تحالفوا ضدي، كان جدولي الدراسي بوضعية الطاقة القصوى، ٢١ ساعة مجموع المقررات لديّ، أي مصيبة هذه؟

سأعترف بشيء، نعم كنت مهملاً في ذاك الفصل، طالب خريج عائد من تدريب تعاوني (إجازة إن صح التعبير) كان مدتها ٧ شهور، عائد ليكمل مستواه الأخير ومحمّل بساعات هائلة، كيف أطيق الدراسة؟

خطة الكلية كانت كارثية، كيف تعطي الطلاب تدريب مدة ٧ شهور ثم تطلب منهم العودة لمقاعد الدراسة.

رضيت بقدري، حاولت توزيع طاقتي بتساوٍ على مختلف المقررات، وكانت المشكلة في مقرر حل المشكلات، أدخل القاعة ولا أجد أعضاء الفريق النبلاء، نصّبني المحاضر رئيساً عليهم، ليس امتيازاً بي، لكن لأن الصعاليك كانوا مشغولين بغزوات أخرى أهم، فهذه محسومة لصالحهم، لا مفر.

ذهبت للمحاضر يوماً ما، وكنت من نوعيّة الطلاب الذين لا يجيدون التملّق، لم يسبق لي أن ذهبت لمكتب عضو من أعضاء هيئة التدريس طوال مسيرتي الجامعيّة، كان محاضراً من الجنسية العربية، ذهبت لأخبره بمشكلتي، ضحك باستفزاز وقال: احنا بنحل المشكلات، اتعلّم معهم وحلّها بنفسك.

أنا المستجير من الرمضاء بالنار، أنا من قيل فيه هذا المثل تماماً في ذلك اليوم.

بدأت بسياسة جديدة، حاولت استرضاء الصعاليك بنوع من اللغة التي يتقاطعون معها، في ليلة تسبق تسليم تقرير لحل مشكلة ما في المقرر اتصلت بهم لعقد اجتماع في أحد المقاهي.

تقابلنا، لم أشرب القهوة، رميت العقال والشماغ والابتوب، وكل شيء يُرمى، طالبكم طلب يالرجاجيل، أنا مدري ألقاها من مشروع التخرج وإلا من مقرر الإشارات الإلكترونية والأنظمة وإلا من وين، فزعة يالربع شدّوا حيلكم.

أقلّب طرفي بينهم، الأول كأنه حنّ ورأف، أخذ الثاني رشفة قهوة ثم سددها:

يالتميمي حنا اللي نستفزع بك، أنت الخريج وأنت اللي مفروض ترفعنا، وإلا حنا، وإن جيت للحق ما ورانا دراسة، أصلاً ما نفهم إنجليزي كلّه بكبره، شفنا ما نحضر معك.

سلّمت أمري لله، وبتكاسل حاولت ترميم ما هدموه، نجحت في كل المواد، أ+ في مشروع التخرج، ورسبت -معهم- في حل المشكلات.

يائساً تقدّمت باعتراض لمجلس الكلية، قابلت العميد، أخبرته بالعرض الوظيفي، للأسف لم يصدقني، طلبت منه أن يهاتف موظف الشركة اللطيف ليتأكد ورفض، اكتب اعتراضك وسننظر فيه في شوال بداية الفصل الصيفي، هذا ما تستطيع فعله.

الجميع انصدم، أهلي، أصدقائي، حتى أعدائي الشرفاء لو علموا لانصدموا.

دائماً كنت أسمع أبوي يقول: الله يجزى والدينا الجنة، فعلاً الله يجزاهم الجنة، نحن بدونهم عدم فعلياً، جاءتني أمي لتواسيني، لطالما فاخرت بي وبنجاحاتي، هي انكسرت أيضاً.

لا يرد القضاء إلا الدعاء وأنا أمك، أنت متأكد أنك مظلوم، اطلب ربك وكلك يقين بالإجابة، وانتظر قرار مجلس الكلية.

هاتفني اللطيف موظف الموارد البشرية في الشركة الحلم، يظن أنني في فترة استجمام واسترخاء قبل المباشرة، ذُهل بالخبر، أخبرني باستحالة الوظيفة بعد الفشل في مقرر ما، حلفت له أنني مظلوم، وأخبرته بالسيناريو كاملاً، صمت قليلاً ثم وعدني باتصال آخر لعله يحمل أخباراً سارة.

اتصل بي من الغد، اسمع تميم الشركة علّقت البوزيشن حقك، سننتظر معك حتى شوال، أصلاً رمضان يركد الشغل فما فيه شيء نستعجل عليه، خذ جوالي واتصل بشرني في شوال.

أكاد أجزم أن قلب هذا الرجل يفيض نقاءً وعذوبة، هكذا هي أخلاق الكبار، أي رحمةٍ إلهية هذه، وأي بوادر انفراج من الله عزّ وجلّ؟

بالمناسبة، اسمه ماجد هذا الموظّف، عظماء من يحملون هذا الاسم، الكابتن ماجد في طفولتي، والجوهرة السوداء ماجد عبدالله، وماجد بالعربية: كثير المجد، الأصيل والشريف وذو المروءة وحسن الخلق، وماجد كان كذلك، أستطيع أن أجزم بهذا.

لجأت إلى الله سبحانه وتعالى في رمضان ٢٠١٢، لم أفوّت الدعاء في صلاة التروايح والقيام، وكنت أجلس في المسجد من بعد الفجر حتى طلوع الشمس وأنا أتضرع بالدعاء، يا رب إن كان هذا قدري فهذا دعائي، اللهم استجب لي وغيّر قدري.

كنت أحفظ أكبر قدر ممكن من أسمائه الحسنى في كل يوم، وأتضرع بها.

مع كل يوم كنت أشعر بيقين داخلي، أخرج من المسجد مع لحظات الإشراق الأولى، كان النور أول ما يتسلل إلى قلبي لا عينيّ، وحين أدخل المنزل كنت أراها في كل يوم، تشع نوراً وطُهراً وهي تقرأ من المصحف، كانت أمي هناك كل يوم تنتظرني، أصعد إلى الغرفة وأنام كالطفل، قرير العين.

جاء شوال ومعه الموعد المرتقب، ذهبت في أول إثنين إلى الكلية محمّلاً بمستندات تتضمن سجلي الأكاديمي النظيف والعقد المقدم من الشركة، كنت قد علمت أن مجلس الكلية يُعقد في كل يوم إثنين، الله أكبر يا مجلس الشورى، كان هذا تعليق والدي الحانق منهم، إذكر الله يبه ووسّع صدرك، ودعواتك.

كنت أردد طوال الطريق للجامعة والذي يبلغ قرابة الأربعين كيلو: اللهم سخّرهم لي يا حيّ يا قيوم.

وصلت ودخلت على مكتب العميد الذي كان مبتسماً ورائقاً جداً، والله أنه لم يُعرف بابتسامة طوال فترة توليه هذا المنصب إطلاقاً، كان الطلاب يعرفونه بعبوسه الدائم، فسبحان من سخّره لي تلك اللحظة.

أخبرته بقصتي كلها، أو أعدت عليه القصة إن صح التعبير، دُهش وتفاجأ، ما شاء الله جاك عرض من الشركة الفلانيّة وأنت بالاختبارات النهائية، ما شاء الله عليك، وبدأ يمدحني ويثني عليّ بكلام ما زلت أتعجب منه حتى يومنا هذا.

كيف تغيّر هذا الشخص في غضون شهر، كيف؟ كيف؟

أخذ مني جميع الأوراق، وطلب مني الانتظار لحين انتهاء المجلس، لم تكن ساعات الانتظار مليئة بالتوتر والقلق كحالها السائد، كنت مطمئناً لدرجة تقف اللغة وتعجز عن وصفها.

دخل إلى المكتب برفقة ثلّة من أعضاء هيئة التدريس، كانوا يتناقشون فيما بينهم، قطع حديثه والتفت إليً، أنزل نظارته وقال:

تميم، قررنا ننجّحك ونعطيك ب، راضي؟

راضي؟ عفواً سعادة العميد تشاورني؟

عن الباء أحدّثكم، باء نجاحي، ومن ثم اكتشافي لاحقاً لبائية جرير في هجو الراعي النميري، وبائية المتنبي، وشوقي، كيف أحببت الباء لهذه الدرجة؟ كيف غيّر حياتي حرف واحد تماماً؟

نجحت، تعدّل السجل الأكاديمي، تغيّر قدري بفضل وكرم من الله سبحانه وتعالى، أقام لي أهلي حفلاً كبيراً، الجميع فرح لي دون استثناء، اتصلت بطيّب القلب ماجد، ماجد أبشرك أنا نجحت واستلمت السجل الأكاديمي الجديد، أنا جاهز.

لم تقف عظمة ماجد هنا، ما زال يُمطرني بكريم خُلقه، تميم ريّح، أنت مريت بتجربة استنثائية، الشركة في انتظارك في ذو القعدة، تباشر في بدايتها بإذن الله.

باشرت عملي في ذي القعدة، قابلت ماجد، كان بهيّ الطلّة، سَمح المحيا، ولولا الحياء لعادني استعبار كما قال لجرير، والله لولا الحياء لبكيت وضممته، أحببت هذا الرجل محبّة هائلة، تمنيّت أنني صرّحت بها يوماً ما.

مؤخراً قرأت:

"لا تعامل الله بالقلق، عامله باليقين ليعاملك بالمعجزات"

وتذكّرت قصتي هذه، قررت أن أكتبها وأضعها بين أيديكم وهي رسالة لمن يشعر باليأس تجاه شيء ما، لا يرد القدر إلا الدعاء.

ادعوه وتضرعوا له سبحانه، بشرط أن تكونوا على يقين بالإجابة.

بالتوفيق للجميع🙏🏻