"ما أقسى وما أمر أن تكون إنساناً " ، " أُريد أن أُذيب السماء في البحر وأ ُصهر الجمال مع القبح وأن أخلق من الألم فُقاعات من الضحك".
"كــــاليــجـــولا"
الطاغية الذي يجعلنا الكاتب والمفكر الوجودي ألبير كامو، نتعاطف معه بحذر شديد، ذلك أنه كان ضحية لمفهوم السلطة حين تتكفل بنزوات الطفولة وتلبية طلباتها.
إلتقط المؤرخون وصُنّاع الدراما الإنسانية، سيرة هذه الشخصية ليجعلوا منها نموذجا لتحوّلِ فردٍ حالم، محب ووديع، وربما معتوه، نحو الدكتاتورية في أشنع أشكالها، وذلك عبر إطلاق العنان لخياله الشخصي وطموحه الفردي. فقد كان يحلم في صغره بقطف القمر، وبناء جسر معلق يربط بين روما وكوكب المشتري.
مسرحية ألبير كامو، الرجل الحائز على جائزة نوبل للآداب في خمسينات القرن الماضي. واعتبرها النقاد "عصياناً شيطانياً ضد القدر، قدمه لنا مؤلفها وهو في الطريق للبحث عن معالجة لمشكلة الحرية".
وهى عمل يتجدد داخل كل فرد فينا عند كل صباح. كاليجولا ( كايوس) كان يسعى وهو صغير إلى قطف القمر، واستمر في فعل ذلك كبيرا. يا لفظاعة أن يظل الفرد طفلاً.
إزداد الإهتمام بكاليجولا بعد تنامي الدراسات والأبحاث التي تأخذ بسيكولوجيا الطاغية، والرغبة في معرفة النزوع نحو الإستبداد لدى حكام كثيرين، رغم أن العمل قد كُتب قبل ظهور هتلر وموسوليني وستالين، وحتى فرانكو في إسبانيا،
كتب التونسي القيرواني بشير القهواجي عمل حمل عنوان “بيارق الله” مستحضرا فيه شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر، ومستلهما غرابة هذه الشخصية من محيطها الأُسري ونسيجها النفسي في مقاربة ذكية مع شخصية كاليجولا، خصوصا في علاقته المريبة مع شقيقته، ومدى تأثير ذلك على سلوكه ونزوعه نحو دكتاتوريته وسلوكه الشاذ.
كاليجولا طاغية لم ترى روما شبيهاً له. قد تكون هذه لوثة السلطة التي قال عنها الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس في مسرحيته “الملك هو الملك”. ومن هذا المنطلق تعتبر الحياة فصل من العبث يكتبه المقتدرون والمتسلطون في حق الصغار والمستضعفين.
مارس كاليجولا، عربدة سياسية وفكرية: فقد قام بمضاجعة امرأة أمام زوجها من حاشيته، إمعانا في إهانة من لا يذود عن شرفه أمام جبروت السلطان. وبلغ به الأمر درجة سفاح المحارم وإتيان الفواحش التي كانت لا ترضاها، حتى روما الوثنية والشرائع السائدة، آنذاك. إنه “شيطان المشاكسة وسيدها على كل ما هو محظور”.
كاليجولا أبله متوحد، وناج وحيد من إخوته الستة، دكتاتورا يتلاعب بمصائر وأرواح، يغزو بلدانا، يقوّض أمن شعوب مجاورة، ويغير من الجغرافيا والتاريخ. إشارة إلى ضلالة الحاكم والمحكوم، وفي سخرية واضحة من فكرة مفهوم الدولة وقوانينها ، عيّن كاليجولا جواده مستشارا في مجلس الشيوخ، وطالب الأعضاء بالوقوف له تحية وإجلالا، فقط، لأنه مطية لإمبراطور روما.
كان لا بد لهذا الكابوس الجاثم على صدر روما أن ينتهي، وكان هذا هو الحال لدى أسلاف كاليجولا، من يوليوس قيصر الذي تآمرت عليه روما بأكملها، مرورا بنيرون الذي أحرقها حبّا وانتقاما. ولكن لا يمكن أن يأتى الخلاص من الشعب الذي ينخره الجبن والخوف، بل من داخل السلطة المتعفنة والمتآكلة، فصرخ براكوس للإمبراطور المريض، وصاح في أعضاء مجلس الشيوخ “إلى متى يا أشراف روما نظل خاضعين لجبروت كاليجولا.وقذف حذاءه في وجه حصان كاليجولا وقال " يا أشراف روما إفعلوا مثلي.. إستردوا شرفكم المهان”. فتجمع الأعضاء وأعوان كاليجولا عليه حتى قضوا عليه وقتلوه ولما وصل الخبر إلى الشعب خرج مسرعا وحطم كل تماثيل كاليجولا، التي إستحدثها في المعابد وأجبر سكان الإمبراطورية على عبادتها والإنحناء إليها كل صباح.
جادل كل دساتير روما وتفوق عليها، ثم نال حقه باسم شرعية السلطة. لقبه الجنود بكاليجولا أي حذاء المقاتل الصغير، أن يصبح أسطورة في الجبروت، وهو الذي أحبه شعبه أول تسلمه الحكم، لفرط عدالته وإنصافه للمظلومينفى بداية توليه الحكم. لكن فيما بعد أطلق عبارته الشهيرة متوعدا شعبه “سأكون لكم بديلا عن الطاعون”
كل الدلائل تشير إلى أن كاليجولا، كان في طفولته مصابا بالتوحّد، فنجح ألبير كامو فى إظهار مشروعا عدائيا واستبداديا خلف أحلام الطفولة، التى توفرت لها ظروف التمكّن والتمكين. بالإضافة لإبرازه دور المحيط والحاشية والبطانة في تغذية هذه النزعة.. فتحول من طفل حالم إلى دكتاتور صنعه ضحاياه، وينفخ فيه المقربون منه والمهللون لنزواته.
لقي كاليجولا، حتفه مطعونا بـ30 طعنة على يد مجموعة من حراسه وأقرب المقربين منه، ليتم إلقاؤه بأحد الآبار العميقة، إمعانا في نسيانه وإلى الأبد.. لكنّ ألبير كامو يعيد الروح للجثة وينفخ فيها لتعاد محاكمتها. . وهكذا يتشابه الطغاة حتى في نهاياتهم ومصائرهم.
وكتب التونسي القيرواني بشير القهواجي، في عمل حمل عنوان “بيارق الله” مستحضرا فيه شخصية الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر، ومستلهما غرابة هذه الشخصية من محيطها الأسري ونسيجها النفسي في مقاربة ذكية مع شخصية كاليجولا، خصوصا في علاقته المريبة مع شقيقته، ومدى تأثير ذلك على سلوكه ونزوعه نحو دكتاتوريته وسلوكه الشاذ.
أما في ما يخص التناول الإخراجي والإعداد الدراماتورجي لـ”كاليجولا” فيبقى رائد المسرح التونسي علي بن عياد (1930 – 1972) أهم من قدمها في أواخر ستينات القرن الماضي مع السوري شريف خزندار والمصري جميل راتب. ولا يكاد يخلو مهرجان عربي من “كاليجولا” تضفي لمسة لا تزال حية وطازجة على المشهد المسرحي، من المصريين نور الشريف وإلهام شاهين في ثمانينات القرن الماضي، مرورا بالسوريين جهاد سعد وجيانا عيد، ووصولا إلى نسخته التونسية التي حملت توقيع المخرج الفاضل الجزيري، في الدورة الأخيرة لمهرجان “أيام قرطاج المسرحية”.