وكان الفصام النكد قد نشأ يوم أن أراد فئام من الناس أن يفرقوا بين كون الله تعالى خالقا، وبين كونه تعالى مشرعا حاكما!

وكان من عجيب أنهم فقط يحصرون هذا الفصام النكد على الله تعالى وحده، بحيث تراهم وقد أوكلوا كل صنعة إلى صانعها، وتراهم وقد أوعزوا إلى كل صاحب آلة لإصلاحها، وكان من مقتضى قواعد الإنصاف أن يكون المنهج واحدا!

لكن المسألة لها تاريخ:

ذلك أن العصور الوسطى لما قد انحرفت عن الدين باسم الدين كهنتها ورهبانها وأدى بهم ذلك إلى إزاحة الدين عن قيادة البشرية، وأحلوا الأساطير، وما قالت به ساداتهم، وظنوا أن ذلكم هو الخلاص من ربقة الكنيسة، للانطلاق نحو الرقي والتقدم والاختراع، الذي كانت الكنيسة تقف في وجهه  من حيث قد ظنوا أن الدين كان سببا في التأخر.

إلا أن هذا لا يجعل من الخطأ خطأ آخر مركبا. ذلك أنه كان واجبا عليهم إصلاح أمر الدين لترجع الكهنة إلى الصواب الذي جاءت به الملة، فطرة فطر الله تعالى الناس عليها، وإصلاح الدنيا معه، بحيث لايمكن أن يتصور أن يكون هناك تنافر بينهما البتة.

لكن الذي حدث هو علاج خطأ بخطأ أفدح منه، فصاروا يعبدون الآلة، ويستحلون ماحرم الله تعالى . فأطلقوا حبلا على غاربه، وأفسدوا شربا على شاربه، ليجري كل منهم بحثا – وحسب - عن مآربه، وهي لوثات لاعلاقة لها بالإصلاح البتة!

ومن هنا جاء ذلكم الفصام النكد بين أمر الدين الذي اختصروه إلى داخل الكنيسة فلا يتعداها إلى خارج، وأما كل ما كان خارج جدران الكنيسة فلاشأن للدين به! حتى وصل بهم الأمر– وتلك – بداهة أن كانت الكنيسة نفسها مرتعا لكل داء، وتربة خصبة لكل هاجس ومرض ووباء!

ومنه قد تسربت إلى مجتمعاتنا هذه اللوثة بحيث أصبح من المعمول به عملا في مناح عدة أن الدين لايكاد يخرج من المسجد!

وكان من كيد أولاء أن غسلوا أدمغة ثلة منا فأوسعوا لهم المساجد ليقولوا فيها قولهم حيث شاؤوا ! إلا أنهم نفثوا في روعهم ألا شأن لما تقولونه داخل مساجدكم بشأننا ! ودعونا وشأننا لأن ذلكم هو من مقتضى بيعتكم لنا! والقول بخلافه خروج عنها وويل لمن خرج!

ومن مقتضى ذلكم، قول منسوب إلى نبي الله تعالى عيسى عليه السلام( دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).

وهي مقولة لا أعتقد صحتها بقدر ما أعتقد معناها، إذ إنها على ذلكم نحو إنما  تخالف نصوص القرآن صراحة، وذلك من مثل قوله تعالى (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران:154]،وكذا قوله تعالى [أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). [الأعراف:54].

وهي عبارة منسوبة إلى المسيح -عليه السلام- عندما حاول بعضهم إحراجه في أمر الجزية التي يدفعها اليهود للرومان؛ فأراهم صورة "قيصر" على الدينار، وقال هذه العبارة.

فلو صحتْ عن المسيح -عليه السلام- لكان المقصود بها الإقرار بصحة دفع الجزية للرومان لأجل أنهم متسلطون على بني إسرائيل   وهم لا يقدرون على محاربتهم ولا يستطيعون مدافعتهم.

ولا يمكن أن يقول المسيح -عليه السلام- بفصل الدين؛ بمعنى أن يكون  بعضه هنا وآخر منه هناك!

وذلكم لأنه نبي، والأنبياء كلهم معينهم واحد، ومشربهم واحد، وأصل وحيهم واحد فلا انفصال ولا انقطاع ولا اجتزاء!

وهو نفسه الذي قال عليه السلام:

( لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل). [إنجيل متي 5:17].

وقال أيضا عليه السلام( فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء و الأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل).[إنجيل متى5 : 18].

وقال أيضا عليه السلام(فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى و علم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات و أما من عمل و علم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات). [إنجيل متي 19:5].

أي لم يأتِ لهدم الوحي الذي أُنزل على موسى -عليه السلام-، وهو متضمن عند كل متأمل عاقل تنظيمًا لأمور الحلال والحرام كلها، إن كانت هنا وإن كانت هناك فتأمل! 

ومنه فإن لوثة القول( دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله). بقدر ما تسرب معناها ومبناها إلى فئام قوم قد أطلوا علينا برؤوسهم ليفرغوا دين الله تعالى من وظيفته كحام لحمى الحلال، وكذائد عن حصون الحرام ألا يوقع في أراذلها، فإنه وبنفس القدر أرادوا أن ينفثوا في روع نفر غير قليل من أبناء ديننا ليحصدوهم حصدا أمام شعاع خافت من نور، يحويه ظلام الادعاء، ويكتنفه هوس الهوى، وإفك البهتان، ونيرالتضليل. وإثم الزور وشهادته معه!

وإنه لبهذا الفهم السمج فُهِمَ ديننا، وبهذا الفقه المتدني سوقت فئة لإسلامنا على أنه ذاك الدين الذي لا يكاد يبرح مسجدا، وأنه ذلكم الاعتكاف الذي لا يكاد يخالفه!

وأضحت كل محاولة لإخراج الدين بأحكامه وآدابه ومعاملاته من المسجد إلى ما هو خارج جدرانه لتقابل بمثل ما قابلت به الكنيسة من قد حاول الخروج بها إلى خارج جدرانها، بل وبأعتى مما قابلت به الكنيسة أهلها!

وهو أمر يجب تصحيحه لأن ساحات الحرب مع الله تعالى لاقبل لأحد تحملها!

ذلك لأن الله تعالى يغار، وأشد ما تكون غيرته سبحانه أن تنتهك محارمه، من تحليل لما حرم، أو من تحريم لما أحل، أو من تبديل لما شرع سبحانه، تحت أي مسمى ومع أي زعم! أو من قتل امرئ مسلم بغير جريرة إلا أن يقول ربي الله!

قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى(حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ عُلَيَّةَ ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ ، قَالَ : قَالَ يَحْيَى : وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ). [صحيح مسلم، كتاب التَّوْبَةِ،  بَابُ غَيْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ،  حديث رقم 5088] .

وهو نداء ناداه غيري كثير، لكنها الأمانة والشهادة، ولكنه الإعذار!

وها نحن الآن نكتب بحثنا، وها نحن الآن نسطر بياننا، إبان جائحة أسموها( كوفيد: 19)، وليس يدرى ما الله تعالى فاعل بنا!

ومنه فلتشد رحال العزم إلى سبيل مولانا الله تعالى قبل فوات أوان الرجوع والتوبة النصوح وعندها(كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ).[ص:3].  والله المستعان!