ذلك وأنه قد كان التقليد شارة من شارات الجاهلية التي أصابت كثيرا من الأمم في مقتل، وتراها به تتأبى على كل نعم يهديها الله تعالى للبشرية كيما تسعد. ذلكم لأن تعالى أبدا(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة:185].

لكن هذه الآفة كانت سببا في صد أمم غفيرة عن الهدى بزعم متهافت لايرقى أن يكون قابلا للنقاش، فضلا على أنه متهافت تهافت البعوض على حرق نفسه أمام الشمعة المشتعلة!

وانظر إلى قوله تعالى (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : 22].

فذلكم سندهم الأوحد في صد الهدى ورفض الخير! دونما إعمال لقليل من التأمل.

إذ إنه في العقل السليم ليست هناك علاقة أبدا بين تقليد الآباء وبين العلو أو حتى الدنو!

ذلك لأن دين الله تعالى إنما قام بالأساس لتحرير الإنسان من ربقة العبودية لما سوى الله تعالى إلا أن تكون العبودية له وحده سبحانه.

ولأن الله تعالى حينما أراد أن يضع ذلكم الإنسان على طريق العزة والكرامة ، فقد نأى به عن سفه التقليد مرتين، إن على صعيد الكفر به تعالى وهذه تارة , وإن على صعيد الإيمان به سبحانه، وهذه كرة أخرى!

وتلك كلية غاية في الأهمية. ذلك لأن الله تعالى حينما خلق خلقه إنما وجه في ذراريهم التوحيد كيما لايعتذر أحدهم بما حدث من دين الآباء، وبما وقع من تقليد لمذاهب السفهاء.

وكيما تتأكد لك هذه الحيثية انظر إلى قوله تعالى(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ۞ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)[الأعراف:172-173].

هذا العهد الرباني قاطع في دمغ مزاعم المبطلين لدعوى التقليد. فأعمله بإمعان- بارك الله فيك - كيما يتأكد لك كيف أن الله تعالى في الوقت الذي أراد أن تكون عبودية الناس له خالصة، فإنه تعالى في الوقت نفسه أراد لهذا الإنسان أن يتحرر من عبودية الإنسان مثله في أي معنى من معانيها.

وما هذه النزالات التي نرى جُلَّها اليوم إلا شقا من ذلكم. ذلكم أن قوما يريدون أن يعزوا أنفسهم بما قد أعزهم الله تعالى به، إلا أن قوما آخرين يريدون أن يدوسوا كرامتهم بحيث لايمكنهم أن يرفعوا رأسا في مواجهة باطلهم يوما ما، وغر هؤلاء دينهم!

ذلك أن الله تعالى بهذا الميثاق قد أودع فيه من الخصائص والإمكانات التي تؤهل هذا الجيل الصامد في مواجهة الباطل ليكون أصلب عودا في مواجهته، ولكي يكون أقوم منهجا في مجابهته فتأمل!

وانظر إلى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن  رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال( لمَّا خلق اللهُ آدمَ مسح على ظهرِه فسقط من ظهرِه كلُّ نسَمةٍ هو خالقُها من ذرِّيَّتِه إلى يومِ القيامةِ وجعل بين عينَيْ كلِّ إنسانٍ منهم وبيصًا من نورٍ ثمَّ عرضهم على آدمَ فقال أي ربِّ من هؤلاء قال هؤلاء ذرِّيَّتُك فرأَى رجلًا منهم فأعجبه وبيصُ ما بين عينَيْه فقال أي ربِّ من هذا فقال رجلٌ آخرُ الأممِ من ذرِّيَّتِك يُقالُ له داودُ قال أي ربِّ كم جعلتَ عمرَه قال ستِّين سنةً قال أي ربِّ زِدْه من عمري أربعين سنةً فلمَّا انقضَى عمرُ آدمَ جاء ملَكُ الموتِ فقال آدمُ أوَلم يبقَ من عمري أربعون سنةً قال أوَلم تُعطِها ابنَك داودَ قال فجحَد وجحَدت ذرِّيَّتُه ونسِي فنسِيَت ذرِّيَّتُه وخطِئ فخطِئت ذرِّيَّتُه) . [الرد على الجهمية، ابن منده : 49] .   

التخريج : أخرجه الترمذي (3076)، والبزار (8892)، وابن منده في ((الرد على الجهمية)) (ص23) واللفظ له).

ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ورواه الحاكم في مستدركه، وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه[المستدرك: 3257].

وهذا إعلان نبوي عام في بيان لوثة التقليد، وما يمكن أن يكون إليه مآلها، حيث قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه( كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه[صحيح ابن حبان: 129].

وربنا الرحمن سبحانه في مراده لتخليص البرية من كهذه لوثة أنزل فيها من الآيات ما يكون عبرة وقانونا محكما ليس لأحد أن يدعي الخروج عنه بعد ذلكم السيل الهادر من الآيات والذكر الحكيم.

فإنه سبحانه الذي يقول ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) [ الأحزاب : 7 ].

ومنه قوله تعالى( هذا نذير من النذر الأولى )[ النجم : 56 ] .

ومنه قوله : ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ). [ الأعراف : 102 ] .

وهو الذي يقول سبحانه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ] . [ الروم : 30 ] .