من طريف ما قيل في ترتيب الشعراء هو هذا التقسيم :
الشعراءُ أَرْبَعَهْ ، فشاعِرٌ يَجْرِي ولا يُجرَى مَعَه وشاعرٌ يَخُوضُ وَسْطَ المعمعهْ ، وشاعرٌ لا تَشْتَهِي أنْ تَسْمَعَهْ وشاعر لا تستحي أن تصفعه ، وكان الكتاب إذا سخروا من شاعر قالوا له يا رابع الشعراء ، وكلامنا أيضا ليس على الرابع ، وإنما عن الشاعر الذي وسط المعمعة .
تذكرت وأنا أقرأ عن سيرة المتنبي القول الشائع "لسانك حصانك إن صنته صانتك وإن خنته خانك" ، فقد اختلفت الروايات في السبب الرئيسي في مقتله لكن يبقى السبب الثابت في كل هذا هو لسان المتنبي ، قتل أبي الطيب المتنبي على يد فاتك الأسدي وذلك لأن المتنبي هجا ابن أخت الأسدي ، وقد لقي المتنبي مصيره الأخير في طريق عودته من بلاد فارس قاصدا الكوفة ، لكن هل المتنبي الوحيد الذي كان مصيره القتل من الشعراء !
ولما امتنع الخليفة المهدي الخليفة الثالث للدولة العباسة عن المّن على الشاعر بشار بن برد ، هجاه بشار و وزيره يعقوب ، فلما بلغ الخبر إلى المهدي ووزيره امروا بالقبض عليه ، ولما جاء ببشار ذو السبعين عاما الشيخ الطاعن بالعمر ، عذب أشد تعذيب حتى مات ، ويقال أيضا في روايات أخرى أنه أعدم !
لتصيب لعنة القتل ثاني شعرائنا ، فهل اكتفت لعنة القتل بهذا القدر أم أنها ظلت تنهش الشعراء واحد تلو الآخر ؟
هناك حيث إسبانيا حيث الأجواء مشحونة ومكهربة ، أيام قليلة لانقلاب الجنرال فرانكو ،وما هي إلا لحظات يصل بلاغ مفاده أن الشاعر الذي تتوعده السلطات أنه في بيت أحد أصدقائه ، ليقبض عليه ويعدم رميا بالرصاص ! لكن جسده لم يعثر عليه كما قال في أحد قصائده :
وعرفت أنني قتلت
"وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية
ولكنهم لم يجدوني قط"
لتسرق لعنة القتل والموت شاعرا آخر وتذهب به لتضمه إلى القائمة من الذين سلبتهم منا ، ربما تحبهم أو ربما القتل يستحقهم أكثر منا !
الخامس والعشرون من شهر ماي من سنة 1993 في صباحات هذا اليوم لقي الشاعر العظيم الجزائري الطاهر جاووت حتفه في سيارته أمام منزله ، ليتلقى رصاصتين واحدة في ذريعه والثانية في رأسه ارتده قتيلا !
وكان الطاهر جاووت دائما يقول :" إذا تكلمت تموت وإذا سكت تموت، إذن تكلّم ومُت. "
لقد كان شجاعا لما يكفي للتكلم وهو يعلم مصيره ، ومصير كل من يقول الحق . المفكر علي شريعتي قال:
قلت لصديقي:لِماذاَ لا يصيح ديككم؟
قال:اشتكى منه الجيران لأنه يوقظهم، فذبحناه!
هنا فهمت أن كل من يوقظ الناس من سباتهم على امتداد التاريخ هناك من يريد قطع رأسه !
في حياتنا يتداول الناس اسم الدجاج ولا أحد يذكر الديك
يفكر بمن يملأ بطنه ولا يفكر بمن يوقظ عقله وفكره.
بين الموت وقول الحقيقة ، والعيش والتفرج على الباطل ، اختار الشعراء الأولى ، فالموت كتب للشعراء لأن الذي يعلم أن حياته مسترة سواء مات أو بقي حيا لا يخاف القتل ولا التعذيب ، والشعراء باقون على قيد كأنهم لم يموتوا !
بين نعمة البوح و الوقوف أما م الباطل وبين الموت والتعذيب جزاء ، لا تستطيع حتى الشعرة الرقيقة التفصل بين الأمرين فإما أن تموت مع الحق أو أن تعيش مع الباطل .
لكن تبقى لعنة القتل والتعذيب تلاحق الشعراء لأنهم عرفوا سر الحياة و عرفوا معنى كيف تبقى حيا حتى ولو مت ، في زمن عنوانه العريض تقول كلمة تموت حتى وإن كنت لست شاعر ، نحن في حاجة ملحة للكثيرين من بشار بن برد و غارثيا لوركا و الطاهر جاووت الذين جعلوا أجسادهم حقلا لرصاص الظالمين ، فكل رصاصة تغرس فيهم تعود وردة تقدم للقاتلين ، فمنكم الرصاص ومنا الكلمات والورد .
منا الورد ومنكم الرصاص "لعنة الشعراء"
هذه التدوينة كتبت باستخدام اكتب
منصة تدوين عربية تعتد مبدأ
البساطة
في التصميم و التدوين