ثمة علاقة وثيقة الصلة بين الخيال الفني (الأدب بصنوفه المتعددة) وصُناع السياسة والخبراء الإستراتيجيين في العالم. وكنت قد أظهرت فى مقالات مختلفة علاقة الأدب بكل مناحى الحياة كجزء لا يتجزأ فكتبت "الأدب والصداقة والفلسفة"، "الأدب يعالج قضايا أطفال الشوارع"، "الأدب وإدارة الأزمات"، "الأدب المقارن وحوار الحضارات"، "الأدب والأكوان الموازية، "الأدب وحرب الفيروسات"، " الأدب والإنتماء"، "الأدب والفنون القتالية"، "تسييس الأدب" وغيرهم الكثير. فهناك تفاعل وتكامل بين الأدب والحياة: وجدير بالذكر أن تشيرشل زيَّنَ خطاباته وكتبه بإشارات مرجعية لشكسبير، لا سيما مسرحياته التاريخية.
فالدارس والمحلل لمسرحيات شكسبير يمكنه أن يرى بوضوح البُعد السياسى بها. فهو اسطورة الأدب الإنجليزى الذى لخص جميع خبرات الحياة بين سطوره وجماليات نثره وصور اشعاره.فتجد عبر مسرحياته أن السلطة دائمًا ما تفسد الأشخاص: كأن ينقلب الابن على أبيه كما في" الملك لير" أو يقتل الأخ أخاه كما في "هاملت" أو أن يستبد الطموح بأحد الفرسان فيغتال ملكه ليجلس على عرش البلاد بدلًا منه كما هو الحال في مسرحية في "ماكبث".
ويشير روبرت فارلي، محاضر أول بكلية باترسون للعلوم الدبلوماسية والتجارة الدولية بجامعة كنتاكي الأمريكية، إلى أن إسهام شكسبير الأساسي يكمن بقدر أكبر في تناوله لتفصيلات معسكرات الجنود من تناوله لأرض المعركة عينها، كما في مسرحيتي "ريتشارد الثالث" و"كوريولانوس". حيث أسرت تلك التفاصيل عيون الجماهير دومًا على الجانب الشخصي، ودوافع الجنود سعيًا وراء المجد والاغتنام والشرف، والطرق التي يرتبط بها الجنود ببعضهم بعضًا ويحس الواحد منهم بالآخر. وحقيقة الأمر – كما يقول فارلي- فإن مرور هنري الخامس الذي قاد الجيش الإنجليزي لهزيمة الفرنسيين بمعسكره في اليوم السابق لمعركة أجينكورت في العام 1415 أمسى نصًّا أساسيًّا لفهم العلاقات ما بين القادة ورجالهم.
وتفيدنا دراسة مسرحيات شكسبير فى أخذ الحذر ممن لا يعارضونك كقائد سياسى : ففى مسرحية "الملك لير" نراه يُدنى منه المنافقين ويُبعد عنه الصادقين الناصحين" لقد احتفظت لك بثلث الملك، وهو أخصب بقعة في مملكتي وأغناها، فحدثيني بمقدار ما تضمرينه لي من حب وولاء. فقالت كورديليا: «ليس لدي ما أحدثك به يا أبتاه!» فقال لها الملك لير: «كأنك لا تحبينني، أيتها الفتاة! أعيدي على مسمعي جوابك الأخير». فقالت كورديليا: «إني أحب جلالتك بمقدار ما يحتمه علي الواجب الأبوي، لا أكثر، ولا أقل». (ويليام شكسبير – الملك لير).
كما ترشدنا مسرحيات شكسبير إلى ضرورة التأكد من مصداقية من يزودك بالأخبار: ففى مسرحية "عطيل" تجده ترك نفسه إلى الشائعات بدلا من الإهتمام بمهامه كقائد. فصدق الشائعات المغرضة التي كان ينقلها إليه إياغو، عدوه اللدود الذي يُظهر له الود ويضمر له كل حقد وكره. وقد أقنع إياغو عطيل بأن زوجته تخونه وبدلًا من أن يذهب الأخير ويتحقق من الأمر ويسأل زوجته إن كان هذا الأمر صحيحًا، إذا به يصدق إياجو على الفور ويقتل زوجته وينتحر بعدها حين يتأكد من براءتها.
والقائد السياسى طبقا معايير شكسبير ً يجب أن يكون خطيبًا مفوهًا : ففي مسرحية شكسبير هنري الخامس،تجد قائدًا مثاليًا. فقد كان ينقصه الذكاء والحنكة، ولكنه كان يعرف كيف يُلقي خطابًا حماسيًا يلهب به الحماسة في قلوب شعبه قبل أن تبدأ الحرب بين بريطانيا وفرنسا.
وهناك أخطاء فى حياة القادة والملوك أثبتتها صفحات التاريخ فنجد أشخاص استطاعوا عن طريق الخيانة أو الكذب أو الغدر أو الإغراء الوصول إلى كرسى العرش مثل )جون كونروي) الابن الطموح لـ(جون بونسونبي كونروي) الإيرلندي الأصل و(مارغريت ويلسون)، وُلد في عام 1786 وأصبح يعمل كرئيس مرافقي الأحصنة في منزل (دوق كنت) والد الملكة فيكتوريا، وبعد موت الدوق في عام 1820 ترقى ( جون) ليصبح المراقب المالي لهذه العائلة المالكة.
في عام 1829 انتشرت شائعة تقول أنّ (دوقة كنت) والدة الملكة (فيكتوريا) هي عشيقة (جون)، فمن خلال هذه العلاقة استطاع (جون) تنصيب نفسه السكرتير الخاص بـ(فيكتوريا)، وقد كان يملك عملياً الحرية الكاملة بالتحكم بالعائلة الحاكمة بالطريقة التي يجدها تناسبه.
وتجد أيضا حالة تاريخية أخرى حيث أثار وريث العرش البريطاني (تشارلز الثاني) في القرن السابع عشر الكثير من الجدل في كافة أنحاء البلاد عندما بدأ الناس يرونه مع فتاةٍ من عامة الشعب تُدعى (آن هايد)، حيث كان الاثنان يشاهدان سويةً في أماكن عامة يُظهران شغفهما وحبهما من خلال حضن وتقبيل بعضهما في العلن، وهو أمرٌ كان يُعد غير مقبول في القرن السابع عشر، ولتصبح الفضيحة أكبر فقد مارس الاثنان الجنس قبل الزواج.
حين اكتشفت (آن) أنّها حامل بابن وريث العرش، تزوج العاشقان بسرعةٍ لدرء الفضيحة، لكن ابنهما تُوفي بعد ولادته بفترةٍ قصيرة، غير أن (آن) كانت قد أصبحت بالفعل في مركزٍ راقٍ وأصبحت تملك سلطةً كبيرة في بلدٍ كان يُصبح أحد أقوى بلدان العالم الغربي في تلك الفترة.
والحالة الثالثة فى التاريخ الإنجليزى هى ( نيل غوين) التى وُلدت في لندن لأمٍ كانت تُدير بيت دعارة، وبسبب نشأتها بين رجالٍ يبحثون عن المتعة الأنثوية أصبحت (نيل) ذات مواهب تمثيلية وكوميدية. وأصبحت عشيقة للملك (تشارلز الثاني) وأنجبت (نيل) ابنين من (تشارلز)، لكن عاش واحدٌ منهما فقط وهو (تشارلز بوكلرك) الذي أصبح أول دوق لمدينة (سانت ألبانز)، وقبل وفاة الملك (تشارلز) طلب من أخيه الاعتناء بـ(نيل)، لذا بعد وفاته تلقت (نيل) راتباً حتى آخر حياتها.
الحالة الرابعة هى الأميرة (فيكتوريا) هي حفيدة الملكة (فيكتوريا)، تزوجت من الأمير (أدولف من شوامبورغ-ليبي) وهو أخ (فيلهلم) قيصر ألمانيا. واستنتجت (فيكتوريا) أنّ الحياة الملكية ضمن القارة الأوروبية لا تناسبها، لذا قررت أنّها إذا تزوجت مرة أخرى فسيكون زواجاً ناتجاً عن حب. لكنها للأسف وقعت فى حب نادل روسى مفلس يدعى (ألكساندر زوبكوف)،وكان محتالاً ماهراً، فقد سلب كل شيء من (فيكتوريا) لدرجة أنّها عندما ماتت في سن الـ63 كانت فقيرةً ووحيدةً جداً، فقد ماتت في غرفةٍ قذرة كانت تتشاركها مع امرأةٍ كانت في السابق خادمةً لها، وقد أدعى الأطباء أنّها لم تحاول حتى محاربة المرض الذي قضى عليها حيث أنّها لم تعد تملك سبباً للحياة.
الحالة الخامسة هى الملك (إدوارد الثالث) الذى كان مُخلصاً لزوجته (فيليبا) على غير عادة الملوك، ولكن بعد وفاتها أخطأ بفتح قلبه لوصيفتها (أليس بيريرس) التي كانت متزوجة من موظفٍ في البلاط،. سحرت (أليس) الملك، واستطاعت باستخدام نفوذها سلب جميع الأموال الموجودة في الخزينة الملكية وأصبحت بسرعة أثرى امرأة في كل إنجلترا. لكن بعد وفاته تغير حظها، فقد صدر قانونٌ جديد مكن البرلمان من محاسبتها على أفعالها.
وفنيا يقدم مسلسل "لعبة العروش" المادة الخام للحوار الاستراتيجي الحديث، فقد جعل التشابه بينه وبين أعمال شكسبير الأخير معيارًا للكُتَّاب المعنيين بالاستراتيجيات العسكرية على مر العصور .فالروايات الخيالية بدايةً من باتل ستار غالاكتيكا وحتى هاري بوتر، ومن حرب النجوم إلى لعبة العروش، تطرح العديد من الدروس لمن يعملون في حقل السياسة.
الوسوم:
د.طارق رضوان/"عطيل"/"الملك لير"/" هاملت"/روبرت فارلي، /)جون كونروي)/( نيل غوين) /الأميرة (فيكتوريا) /الملك (إدوارد الثالث) /مسلسل"لعبة العروش"
المصدر : History Collection