Image title

ومن يتكلم عن الحب إذا لم يتكلم الرافعي  ؟ إنه يتكلم عن الحب في رسائل تحمل الكثير من الأشواق من حب ربما كان من طرف واحد ، أو أديب يبحث عن مشجب لتنثال عليه أفكار وفلسفة ، ما تزال الرسائل لها مفعول " سحر هاروت وماروت " بين العشاق وإن طال الزمان وتغير شكلها من رسالة ورقيه لها طابع دمغة أو رسالة الكترونية ممهورة بقلوب وورد وأشكال افتراضية .

حديث الحب هو حديث دلئم ولا ينقطع إلا بانقطاع الحياة ، فما أكثر الحب والعاشقين  ، وما أقل من يكب في فلسفته بصدق بعيدا عن " معانيه الأرضية "  ، إن الحب عن الرافعي عندما اشتمه في أوراق الورد ما كان ضربا من هذايان كهذيان مجنون بني عامر  حينما عصره الحب فصرخ لما قال:

(ولقد هممت بقتلها من حبها كيما تكون خصيمتي في المحشر )

فالحب عند الرافعي حب جرحه كبرياء ، يعشق بالنهار كأبي فراس ولم ينكب عليه الليل يبكي كالطفل ، إنه الحب من طرف واحد ، ليشتعل الغرام وتجبر المعاني على الخروج للفارىء طواعية وبرضا وإن كانت مثخنة بتأوهات عاشق ليل .

ولد  مصطفى صادق الرافعي في عام (1298 هـ- 1356 هـ الموافق 1 يناير 1880 - 10 مايو 1937 م)  في قرية بهتيم بمحافظة القليوبية ثم عاش حياته في طنطا ، وينتمي الرافعي إلى مدرسة ( المحافظين ) ، متمسكا بلغة التراث ومدافعا عنها  ، وبرغم نشأته الدينية إلا أنه قد عاش محبا للجمال والحب ، كغيره مذ أيام  عنترة وعبلة   وكثير عزة وقيس وليلي ، ومن قبلهم ( روميو وجوليت )  ، ولكن يبقي للرافعي تناول آخر للحب وفريد  ، كنت ألمس منه وأنا أقرأ أنه قد تأثر بكتابات مولانا جال الدين الرومي ( رضى الله عنه ) - وإن لم يكن لي دليل على ذلك - إلا قرينة " الإحساس والشعور " لو أعده النقاد دليلا  ومرجعا  -  فلن أخطىء  - وربي - لو سميت الرافعي " الرومي الصغير " .

فلذلك كان الرافعي يرى نفسه أنه المصيب عندما يتكلم عن الحب _ وكأن الحب معانيه الحصرية موقوفة عليه -  " ويبدو أن «مصطفى صادق الرافعي» لم يكن مبالغاً حينما قال: «سيأتي يوم إذا ذُكر فيه «الرافعي» قال الناس: هو الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالب من البيان " (فلسفة الحب والجمال - رحاب أبو زيد - مجلة سيدتي ) .

وقد أومأ الرافعي إلى ذلك قائلا : "  وجاء في أدبنا العربي من المؤلفات  المعجبة التي أفردت للحب ومعانيه وأهله واخبارهم وأشعارهم كتب مجرده  : منه كتاب ( الزهرة ) الذي ألفه الإمام محمد بن دود الظاهري  فقيه أهل العراق وقد جعل كتبه في مائة باب وهو القائل :  ما انفككت من هوى منذ دخلت الكتاب " ( رسائل الأحزان - ص 15 )

وايضا كتابات الرافعي تفوح منها رائحة الحب ( حديث القمر  رسائل الأحزان ) و ( أوراق الورد ) وفي مقالات ( وحي القلم ) .

نظرة الرافعي إلى الجمال هى نظرة تحاول أن تجتلي الحب في كل حالاته من وصل وصد وأخذ وترك  ، لا غرو أن نرى أن الهجران يفتق جوانب الجمال والإبداع  ، بل عبَّر صديقه ( محمد سعيد العريان ) عن ذلك الحب من واقع حكاية حب تناولها من خلال كتابه ( حياة الرافعي  ) :

" كانت قصة حب ... ثم انتهت كما ينتهي حب بين اثنين تكون الفلسفة والكبرياء بعض عناصر وجوده ،  وافترق الحبيبان على غير ميعاد ، وفي نفس كل منهما حديث  يه أن يفيض  به ... "  ( قصة الرافعي العاشق من كتاب حياة الرافعي للعريان ) .

إن الفراق فعل ما فعل بالرافعي حتى جعله ينشىء  كتابه ( السحاب الأحمر ) و ( رسائل الأحزان  ) وفي هذا يقول الأستاذ ( العريان ) : "  وفعل الفراق بالرافعي ما فعل  ، فأنشا كتابيه ( رسائل الأحزان ) و ( السحاب الأحمر )  يصف فيهما من حاله ومن خبره وما كان بينه وبين صاحبته  ، فلما استفرغ ما كان في نفسه من خواطر الحب المتكبر ، ونفس عن غيظه بما ذكر من معاني الالبغض والهجر  والقطيعة  ليخدع بذلك نفسه عما تجد من آلام الفارق ويثأر لكبريائه ... "   (  محمد سعيد العريان - مقدمة رسائل الأحزان ) .

وهذا النص من  رسائل الأحزان يجسد لنا بعضا من فلسفته في الحب  " أنه ليس معي إلا ظلالها ، ولكنها ظلال حية تروح وتجيء في ذاكرتي ، وكل ما كان ومضى هو في هذه الظلا كائن لا يفنى ، وكما يرى الشاعر الملهم كلام الطبيعة بأسره مترجما إلى لغة عينية ، أصبحت أرى في هجرها طبيعة حسن فاتن مترجمة بجملتها إلى لغة فكرية "  ( رسائل الأحزان -ص 5 )

إنه لا يتمتع بلحظات الوصال مع الحبيبة بالحب ، فهى لا تبادله بحب بحب  ، بل حب بصد وهجران ، ومع ذلك نراه متمسكا بأهداب ذلك الحب في يأس ووقار ، وفي النهاية يقهر الحل في خياله قهرا تاما كما قهره في غير الخيال  ، وربما ذكرنا الرافعي بحب بكلمات أبي فراس الحمداني عندما يهيج بالحب ليلا :

(إذَا اللَّيْلُ أضْوَانِي بَسَطتُ يَدَ الهَوَى, وَأذْلَلْتُ دَمْعًا مِـنْ خَلائِقِـهِ الْـكِبْرُ)

يقول في رسائل الأحزان : " كان لها في نفسي مظره الجمال ومعه حماقة الرجاء وجنونه ثم خضوعي يها خضوعا لا ينفعني ..فبدلني الهجر منها مظهر الجلال ومعه وقار اليأس وعقله ، ثم خضوعها لخيالي خضوعا لا يضرها ... " ( رسائل الأحزان - ص 5 ) .

يتمدد الحب أكثر في كتابات الرافعي ليقرع معاني جديدة ، تحاول تارة تقترب من الكون والمعاني المطلقة في الحي ، أو يريد أن يقول أن أساس الكون مبني على الحب والعشق والجمال ،  الذي يراه الرافعي تعقيدا يبتغي من ورائه الوضوح وفي إحدى مقالات أو رسائل  ( أوارق الورد ) بعنوان : (أليس كذلك .. نظرة حب إلى الكون )  :

" إن شيئن هما أروع ما نعرف وما نجهل ، أحدهما : ذلك المجهول الأعظم المنبسط وراء العقل يترامى قفرا في قفر إلى ما لا نعقل من أسرار اللانهاية ، والثاني ذلك المعروف الأعظم المختبيء وراء القلب يتعمد صفة في صفة إلى ما لا ندرك من أسرار النفس . وفي ذلك التعقيد السماوي تلتمس الروح وضوح الألوهية ونعيم الجنة والنار وفي هذا التعقيد النفسي يلتمسون وضوح الحب ونعيم الحبيب المعشوق . أليس كذلك يا حبيبتي ... " ( أوراق الورد - ص 189

وعلى هذا ندرك أن الحب عن الرافعي له معالم ودلائل تختلف عن كل حب  ، إنه يسقط فلسفة الحياة على الحب والجمال والعشق .

أحمد زغلول - كاتب مصري