يبدأ نهار ذلك اليوم منذ فجر البشرية الأول ويستمر مساؤه حتى هذا المساء وكل مساء، فمنذ ميلاد أول فجر وُلد ذلك العاشق ، رأسه ضخمٌ بلا انتهاء ، يتمطى بجسده ليقبِّل وجه السماء، مهما حاولتَ فلن تستطيعَ تحديدَ معالم كتفيه إذ تماهت الحدود ما بين رأسه وبين كتفيه عندما دنا ليحتضن حبيبته بين ذراعيه، ومن فرط ضخامة يديه ستظنُ أنهما ملتصقتان بجسده من منبتهما حتى النهاية حيث يمسكُ أصابعَ قدميه، بشرتُهُ بلون الأرض، ويرفضُ أن يغسل وجهه حتى لا يغفلَ عن حبيبته لحظةً واحدةً فيدعُ حباتَ المطر تفعل ذلك، ويسمحُ للقطن المتساقط ثلجا من عيون السماء بالمرح واللهو فوق وجهه وباقي الأجزاء.
انه عنيد جداً، إلا أنه طيبُ القلب وعاشق!!
ولأنه وُلِدَ بحجمٍ كبيرٍ جداً، فقد تعذبت أمُهُ في مخاضها، ووفاءً منه رفضَ الابتعاد عنها بعد خروجه من رحمها الدافئ ، وبقي جالسا حيث وضعته متصلاً معها بألف…… ألف حبلٍ سري ، وبعدما أنهى تراتيل الولادة بدأ يستطلعُ حدود المكان ، مسقطَ رأسه وعنوان إقامته الدائم ، فأدار ظهره لجهة الغرب مستقبلاً مشرق الشمس فضّيعتْ ملامحَ وجهِهِ تحيةُ الصباح المهداة اليه من صاحبة المحيا المنير، ولم يكد يكمل دورة استطلاعه وتعرفه على المكان حتى وقعتْ عيناه – نصف المغمضتين رداً على تحية الصباح – على جسدٍ ممدد فوق وجه الارض فتسمرَ في مكانه وماعاد يستطيع الحراك ، إلا أن رغبتهُ الفضولية في الاستكشاف شجعته على مد أطرافه في حركة لاشعورية يكسوها الارتعاش ليحضنَ الجسدَ الممدد أمامه فدنا برأسهِ حتى غاب بين كتفيه واستغرقَ – باقي ايامه – في غيبوبة التأملِ للحسناء الغافية بكل هدوءٍ ، وطمأنينةٍ ملائكية الطقوس،  بينما تثور أعتى البراكين في جوفه الملتهب، ومنذ ذلك الفجر وحتى هذا المساء لم يرفع نظره عنها ولم ُيعتقها من أسر ذراعيه ولم يسمح لها بمغادرة حضنه الغني بالينابيع.
كنت ُ أراهُ كلَّ يومٍ، وأعرف إسمه وعنوانه الذي لم ولن يغيره أبدا، لكني لم أكتشف أسراره إلا من حديث ذلك العجوز الذي إلتقيتهُ بعيداًجداً عن أنظار وعن تضاريس ( قاسيون ).
فاجأني بالسؤال: هل تعرف قاسيون؟
قلت: وهل يجهلُ أيُّ دمشقي جبل قاسيون؟؟!!
قال: أراهن بمحبتي له أنك لا تعرفه.
ولم يمهلني لأجيب بل راح يقصُّ عليَّ أسرار ذلك الجبل ، فعرفت يومها أن قاسيون جبلٌ عاشقٌ ويالعشقه الغريب العجيب، إنه يعشق طفلة!!!
أجل ، فهي وحسب تاريخ الميلاد ولدت بعده بآلاف السنين ، أو قل بملايين السنين، ومع أنها تكبر كل يوم غير أنها تبقى طفلة، لاتشبه الأطفال إلا في مشاكساتها، وطبعها المتقلب ، وتشبه البنات باهتمامها بزركشة ثيابها، وزينة شعرها الذي تشبهُهُ الأشجارُ في طوله وامتداده في كبد السماء ومغازلته الرياح.
إنها حسناء، ولكن من نوع آخر ، فهي متميزة في كل شيء ، متميزة في اسمها وعمرها وكثرة عشاقها وزينتها.و…….و………إنها حسناء وكفى.
اسمها ( دمشق ) ونادها إن شئت جلق ، أو الفيحاء ، أو الشام، بالله عليك هل تعرف حسناء لها أكثر من اسم وتحتار بأي الأسماء تناديها لأنها جميلة كلها؟؟!!
أردتُ أن أجيب ، ولكن…..
أما عنوانها، فهي تسكن – منذ أن ولدت – حضن ذلك العاشق العنيد ، ولقد نسي الناس يوم مولدها لذلك يجهلون كم عمرها،  وهي تخفيه عنهم كيداً منها ، ومنها تعلمت نساء الأرض تصنع الدلال في إخفاء حقيقة أعمارهن، ولذلك تبقى دمشق طفلة، وطفلة عاشقة ايضاً.
ولكن، هل تعرف أنت كيف يعشق الأطفال؟؟؟
اسمع ياصديقي – وتابع ذلك العجوز تدفقه الساحر – إنها تعشق بجنون لا يشبه جنون العشاق، تارة تداعب حبيبها فترى أصابعها تمتد بيوتا متلاصقة بحنان الامهات نحو عنق قاسيون، وتارة تمد يدها وقد تماوجت وتعرجت أزقة ضيقة لتلتف حول ساعده في صعود يشبه حبو الأطفال، أو يفاجؤك شعرها وقد داعبته النسمات لينبثق أشجاراً سامقة الطول ترشف بلذة وثمالة مياه النهر المتفجر من قلبه خوفا عليها من الظمأ، ويتفرع نهر بردى فوق جسدها ليداعب صدرها بأدب يمتزج بشيء من المجون فيكسوه حلة من الأزهار والورود لتتفيأ تلك الطفلة العاشقة هذه الظلال الحنونة، ولتلهو بعيداً عن عين الشمس التي تحرسها دون كلل أو ملل فتختبأ في بيوت تلك الغابة التي يحلو لقاسيون تسمية نصفها الأيمن بـ -الربوة – ونصفها الأيسر بـ – الغوطة.
إنها طفلة حسناء ، وعاشقة حيرتني في عشقها، لأنك تجدها أحيانا تدافع جسد قاسيون الضخم بيديها الناعمتين فتجرحه بحنان لايخلو من قسوة العشاق لتبني بيوتا تشبه بيوت الفردوس الموعود ، أو تراها حينا آخر تحاول التفلت من ضمة ذراعيه لتسترخي وتتمدد باتجاه المشرق ملاحقة خيوط بردى الفضية بقدميها الحافيتين بعدما خلعت حذاءها السحري وأعارته ساندريلا ، ولكن ساندريلا ضيعت الحذاء ، ودمشق – مثل كل الشرقيات – تخشى غضب حبيبها إن رآها عارية القدمين، ولذلك خبأت قدميها تحت جداول بردى لتوهم قاسيون بأنها تلهو وتلعب، غير أن العصافير الشقية فضحت أمرها ، ومن يومها لم يعد يسمح لها قاسيون بالإبتعاد عنه أو اللعب مع الأميرات والساحرات، مع أنه يغض الطرف أحيانا عنها ، وهي تقدر ذلك له فتمد نحو ثغره أبنيتها العالية الجميلة ،  وترسم فوق جبينه قبلة ممزوجة بالغنج والدلال إتخذها ابناء دمشق إطلالة ومصيفا ومأوى للعشاق.
وهكذا ينقضي نهار ذلك اليوم، حين تتعب العاشقة دمشق من طول مداعبة ومشاكسة قاسيون لتدرك في آخر النهار أنه صادق في حبه ، وجاد في طلبها ، وغيور عليها أشد الغيرة ، وتستيقن من صدقه عندما تتحسس آثار عشقه فوق جسدها ، وفي أعماق وجدانها، عندها ، ومع آخر قافلة من ضياء النهار المسافرة نحو العاشق، وبعد أن تختبئ الشمس خلف ظهره ، تعلن دمشق أنها تعشق قاسيون، فترتدي ثوب البوح بغرامها وقد زينته بقناديل الحياء ، ومصابيح الضياء المنتشرة فوق هامات المنازل في حواريها الضيقة ، وتغفو حدائقها على ضفاف بردى بينما يصغي قاسيون لاعترافها الخجول بحبها الأبدي بلغة قديمة جديدة ، قديمة قدم عمرها ذي الارقام السرية، وجديدة جدة الفجر الجميل، لغة سهلة القراءة لاتحتوي إلا تعبيرا واحدا لحالة يتلبس بها قاسيون ودمشق، إنه العناق الخالد ، حيث يشهد كل يوم أبناء دمشق هذا الزفاف المتجدد، فقبيل إختباء الشمس خجلا من قبلة العاشق لطفلته في كل مساء يباشر دراويش الزوايا مراسيم عقد القران في مسجدها الاموي الذي تنتظر مئذنته البيضاء نزول المسيح ، وبعد أن ترتدي دمشق فستان الفرح المزين بالانوار تنطلق الزغاريد من حناجر عجائزها المعمرات، وتبدأ الزفة الدمشقية بأصوات الأبضايات ، وتسهر نوافير بحيرات البيوت الدمشقية تحت شجرة الياسمين حتى يهدها السهر والسمر، وعندما تتسلل قوافل النوم من أبوابها السبعة لتغزو شرفاتها التي تتعانق في مودة لتنام ، عندها يجلس قاسيون يتأمل ويكتب آخر سطور ذلك اليوم المتجدد من ايام عشقه لدمشق منذ فجر البشرية الأول وحتى هذا المساء وكل مساء.

ليبيا- طرابلس 1993