في قيظ الصيف ولهيب الظهيرة كان يُحبُ أن يبدأ عمله اليومي.
يتجول وحيداً برفقة دفتر الفواتير يتنقل مابين البيوت في شتى أنحاء القرية المترامية الأطراف حول النهر الكبير وعلى ضفاف فروعه المتشعبة كالشرايين في الجسد الغض.
يتهادى بخطواته البطيئة تحت أغصان أشجار الزيتون أو يستريح قليلاً تحت ظلال أشجار السرو والكينا ، ويسرع الخطو عندما يمر بمحاذاة أكوام التبن المسترخية فوق صفحات البيادر الصفراء.

 أقصى ما يستطيع اقترافه من آثام وذنوب لايتعدى مراقبة أسراب النساء العائدات من الحقول والمزارع يحملن فوق رؤوسهن ما يمكن أن يصبح قوتاً للأبناء، أو يتعمد التظاهر برغبة مساعدة إحداهن في سوق القرية وقد أمسكت بيدها أكياس الخضار وباليد الأخرى طفلها الصغير الذي يبكي يريد أن تحمله فيمد يده ليحمل عنها الأكياس وترفض عرضه المغري شاكرةً إياه، أو ربما كان يباغت على استحياء تلك المنازل نصف المغلقة والتي تتجاور عادة على أطراف الحقول وقد تعارف الناس على تسميتها  ( حي المزارع )، حيث تكون أرجاؤها مشبعةٌ بالماء المتطاير من شبكة المرشات  الضخمة، قطرات متلاحقة متدفقة عذبة وباردة على العكس من دماءه التي تغلي في كل وقت بينما يحاكي نبض شرايينه ضجيجها المتعالي في الفضاء مستجيبا بذلك للوسوسات الشيطانية التي  تنمو على حواف روحه المحرومة رغم اكتناز جسده لعنفوان الشباب ودلائل اكتمال الرجولة على وجهه.


هنا بعيدا عن القرية والبيوت المتلاصقة والأنفس المحبوسة تحت هيمنة الجدران يمضي سحابة يومه مثل مجنون بلا مأوى يمارس أحلام اليقظة فوق مسرح قد خلا إلا من بعض المشاهدين الذين يحرص على أن يسند إليهم بعض الأدوار في حلقات حياته اليومية،  كان جسده يشبه جمرة متوقدة زاد من لهيبها قيظ الشمس، وروحه لا تتعدى بقايا أنفاس طائر مذبوح يترنح قبل سقوطه الأخير، أقصى أمانيه كانت زوجة تقتسم معه غرفته الملاصقة لغرفة أمه الأرملة.

 يسير هاهنا برفقة دفتره متمادياً في تجاوبه مع خياله المنهك القوى من كثرة التفكير والإبحار في عالم أحلام اليقظة يبحث عن فتاة أحلامه التي طال انتظاره لها ولمَّا يراها بعد.

 وذات مرة وجدها …..
كانت تتزين بأغلى ما يمكن أن تحمله فوق جسدها  فبدت بأبهى حلة وأجمل منظر.

بدت له متكاملة التضاريس مفعمة بالغنج والدلال .

تخيل أنها تبسمت له لما رأته وفتحت له ذراعيها، فوضع دفتر الفواتير جانبا بكل هدوء، ومد يده نحوها وهو مغمض العينين ، فتحهما ليستوعيب ما يرى ، فأعجبته أكثر ، وراح يفتح عينيه ويغلقهما فيشعر بلذة أكبر ، لذة حركة جفونه التي تخبئ وتسجن هذا المنظر العجيب وراح يقتنص لقطة إثر لقطة فيفتح عينيه ويغلقهما، يفتحهما ويغلقهما ، أخيراً فتحهما ولم يستطع أن يغلقهما فقد سمع بدلاً من حديث نشوته الداخلية صوتاً مألوفاً :
ـ اصحَ يا حرامي ..  ( يخرب بيتكن كيف بجيكن نوم ..وانتو خاينين الأمانة وآكلين أموال الدولة؟؟!!)
وجد نفسه نائماً في أحد العنابر في السجن الكبير.
القذارة والأوساخ تغطي بدنه كله ما عدا وجهه وكفيه اللذين مسحهما بغطائه اليتيم، ولكن أنَّى له مسح ما بداخله من سواد قاتم أتلف الفؤاد وأضناه.

لم يكن ” جبران “ نائماً يحلم ، بل هذا سلوكه اليومي منذ أن  تجرأ ذات يوم ودخل ” فيلة حامد “ التي بدت له وكأنها فتاة أحلامه التي طالما بحث عنها وظن أنه وجدها، تجول فيها واستطلع أسرارها فهو يعرف أن الإنسان يسافر ويذهب إلى بلاد الله في الدنيا ليرى روائعها ومفاتنها وجمالها بينما صاحبنا “حامد” أحضر الدنيا إلى فيلته.

مرت عليه دقائق معدودة ظنها ساعاتٍ طويلةٍ وهو يخرج من غرفة ليدخل أخرى ويستطلع الشرفة ثم المطبخ ، فالصالة الكبيرة ، وغرفة الضيوف ، فالحمام ، حمام؟ إنه فيلة بذاته!! ثم…ثم …..ثم … و لم يكن يصدق عينيه، لا يستطيع أن يحدد عدد الغرف حتى أنه عاد ودخل بعضها للمرة الثانية.
فرّت دهشته وانبهاره بهذا العالم الجميل لما أحس بأحدهم قادماً نحوه .

اختفت كل المحاكمات العقلية.
تلاشت  تبريرات الرزق والسعي والاجتهاد والحلال والحرام.
الحقيقة الوحيدة التي يمكن لـ ” جبران “ أن يصدقها ويبصم عليها بأصابع يديه وقدميه هي أن هذه الفيلة من الممكن أن تكون له ، فحامد من أبناء قريته واستطاع أن يمتلكها، لا يهم كيف تم ذلك، فالمهم أنه لا يقل عن حامد بشيء ويمكنه امتلاك أجمل منها، والمسألة فقط مجرد وقت وخطوة عليه اتخاذها.
هذه الحقيقة التي آمن بها خففت عليه مفاجأة زوجة حامدٍ له أثناء تجوله في الفيلة، وهي – حسب رأيه – لا تقل روعةً عن الفيلة بل ربما أكثر،  لم يُخف أمامها ملامح دهشته بالمكان وصاحبته وصرح لها بذلك، ولم يسبب له أي إحراج ردها الرادع بعدما رمت له كيس النقود قيمة الفاتورة التي لم تستلمها منه لأنه لم يحررها أصلاً ، وهو مبلغٌ كبيرٌ جداً ، فقد كان شعوره بلذة التجربة ودهشته بهذا العالم الجميل المتكامل المنسوخ عن حلمه الرائع أقوى من أي خجلٍ أو ذعر .
وظلت لذة التجربة ترافقه حتى أنهى إحصاء المبلغ الذي جمعه والذي لم يجتمع مثله معه قبل اليوم.

خطط لسرقة المبلغ بتمثيلية الإدعاء بتعرض منزله – عفواً غرفته – للسرقة ، ونفذ، لكنه فشل وفضح أمَرهُ حذاءٌ اشتراه في رحلة عودته حيث نسي دفتر الفواتير في المحل، بينما أفاد في التحقيق أن الدفتر والنقود قد ُسرقا معاً، وذكر مبلغ ” فيلة حامد “ ضمن المبلغ المسروق بينما يُظهر الدفتر غير ذلك ، ولسوء حظه تم تسليم الدفتر للشرطة فانكشفت اللعبة وانتهى الأمر به إلى عنبر المختلسين في السجن الكبير.

 قاروون مرَّ من قريته وبنى فيها فيلته، وعندما زارها جبران صدفةً تمنى وصدَّق خياله المريض، واتبع هواه وأمانيه الخادعة، وسار خلف السراب الكاذب حتى احتواه ظلام السجن حيث كانت ذاكرته تواصل عرض شريط تفاصيل تلك الظهيرة  وذلك الحذاء .


تلك الظهيرة القائظةُ كانت آخر عهده بأسراب النساء وظلال الأشجار وبيادر القرية وفردوس القناعة .