الطبقية المجتمعية
يقوم نظام الطبقات على أساس التراتب الاجتماعي الذي يصنف افراد المجتمع في مجموعات حسب عدة معايير أهمها الجانب الاقتصادي، حيث نجد تراتبية هرمية تبدأ بالطبقة الغنية بالأعلى، ثم الطبقة المتوسطة، فالدنيا. ويشترك أفراد كل طبقة في عدة خصائص تميزهم عن البقية، قد تكون مادية او شكلية او معرفية او حتى عرقية.
الصراع الطبقي
كثيرة هي اراء المفكرين حول هذا النظام الاجتماعي السائد، والمعروف انه يساير توجهات النظام الاقتصادي الرأس مالي القائم على حرية تملك وسائل الإنتاج، والتي تعد السبب الأساسي وراء اكتساب الثروة، وبالتالي اعتلاء الطبقات العليا في المجتمع. ان تواجد نظام حاكم مشابه يقوم على الدمج بين طبقة عليا تنغم بالعديد من الامتيازات، وأخرى دنيا تجد صعوبة في تحقيق أدنى شروط الرفاهية والحياة الكريمة، يخلق نوعا من الصراع بين هذين الطبقتين، في ظل غياب شبه تام للعدالة الاجتماعية، حيث نجد ان الطبقات العليا بالغالب ما تَكِّن نوعا من الاحتقار للطبقات الدنيا، في حين أن هذه الأخيرة تَكِنُّ كُرها لمن هم بأعلى النظام الطبقي الاجتماعي. هذا الصراع الكلاسيكي منذ القدم كان هو المحرك الأساسي لمعظم الثورات والحِركات الشعبية التي تخوضها الشعوب، والتي تعيد في الكثير من الأحيان ترتيب الأشخاص حسب الفئات، لتعاد اللعبة من جديد.
العدالة الاجتماعية
يمكننا اعتبار هذه الفكرة هي المادة الأولية التي تم تصنيع الفيلم وفقها، حيث تدور القصة حول شخصية "ايفان"، شاب في الثلاثينات قرر خوض تجربة السجن مقابل حصوله على شهادة الاجازة، ليستيقظ بسجن غير طبيعي يسمى الحفرة، وهو عبارة عن برج هائل من الزنازين، تضم كل زنزانة شخصين فقط، وتتوسطا فوهة عميقة تنزل من خلالها مرة كل يوم طاولة مليئة بالأطعمة الفاخرة، وتتوقف لدقائق فقط بكل زنزانة لتتيح للسجناء أكل قسط من الطعام، ثم تنزل للزنزانة الموالية في الترتيب العمودي، وحين تنتهي من مسيرتها نحول الأسفل تعود للأعلى من جديد بسرعة خيالية لا تلمحها العين. لتعيد النزول باليوم الموالي بدئا من الطابق الأول حيث الطبقة المحظوظة، ثم الطابق الثاني والثالث نحو الأسفل، ليقوم سكان كل طابق بأكل مخلفات الطوابق التي تعلوهم. لكن بمجرد ان تصل الطاولة الى عمق معين، يكون الطعام قد نفذ، فلا يجد السجناء من وسيلة للعيش غير ان يقتل أحدهما الاخر ويقتات عليه لمدة شهر، في انتظار إعادة التوزيع الشهري للسجناء، لعله يحظى بمرتبة أفضل.
القيم الرأس مالية
من خلال قصة الفيلم يتبين أنه يتضمن إشارة واضحة للنظام الطبقي الذي نعيشه، والقائم على الأفضلية التراتبية لأفراد المجتمع، حيث تعد الرفاهية حكرا على الطبقات العليا من المجتمع، في حين ان الطبقات الدنيا لا تنال غير الكدح والشقاء. وبذلك يمكننا اعتبار الفيلم ضربة موجعة في أسس النظام الرأس مالي القائم. من خلال التمحيص في تفاصيل القصة، نجد أن هناك رسالة سامية حملها لنا المخرج من خلال الاحداث، وهي أهمية التضامن من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والنجاة من المصائب، إذ نجد أن مائدة الطعام كانت دائما تحمل قدرا من الطعام من شأنه أن يطعم جميع السجناء بشكل لائق. لكن الجشع البشري يحول دون تحقق ذلك بكل مرة، حيث أن جميع من يوجدون بطابق ما، يحتقرون من يقبعون أسفلهم لكونهم لا يملكون أي وسيلة للتأثير عليهم، فيأكلون بجشع كبير ويفسدون باقي الطعام بالتبول او البزق عليه. في حين نجد أن علاقتهم بمن يتواجدون بالطابق الأعلى قائمة على الكره، لأنهم بدورهم يفسدون طعامهم قبل أن يبلغهم، وذلك بامتلاكهم سلطة يمارسونها عليهم. هذا النظام القائم على الجشع وحب الذات واحتقار الاخر، سرعان ما يؤدي الى نفاذ الطعام بالمائدة خلال الطوابق الأولى، فلا يجد أصحاب الطوابق السفلى ما يأكلونه غير بعضهم البعض، وذلك ما يفسر بشكل ما انتشار ظواهر الجريمة بشكل حاد في الاحياء الشعبية حيث الطبقات الدنيا من المجتمع.
الكتب ليست حادة بما يكفي
خلال فترة العقوبة التي كان يقضيها النزلاء بالحفرة، كان يحق لهم اصطحاب شيء واحد من اختيارهم، وغالبا ما كانت هذه الأشياء عبارة عن سكاكين وسيوف وحبال وغيرها من الأسلحة المخصصة للدفاع عن النفس، لكن بطل الفيلم "ايفان" كان قد طلب اصطحاب كتاب، ما جعل جميع شركائه بالزنازين ينعتونه بالجنون، بحجة أن مكانا خطرا مشابها لا يليق بمحبي الكتب، وسرعان ما سيلقى حذفه حين يجد نفسه يوما بواحد من الطوابق السفلى التي لا تصلها الا الاواني المكسرة، رفقة شريك زنزانة يحمل سيفا رفيعا. من خلال هذه الشخصية يمكننا تشفير إشارة واضحة حول دور المثقف في المجتمع، حيث يظل صوته خافة وشبه منعدم على الدوام في ظل افتقاره للقوة الازمة من أجل الدفاع عن قراراتها وأفكاره وفرضها فرضا. نجد جانبا أخر جد مهم أشار اليه المخرج من خلال شخصية 'ايفان'، وهو كونه مثقفا ذو دافع رئيسي في الحياة هو حصوله على شهادة الاجازة التي ستخول له الارتقاء في المجتمع، وهي إشارة واضحة الى مثقف اليوم، الذي أصبحت مصلحته الشخصية في مرتبة أعلى من مصلحة المجتمع ككل.
الاستهلاك القاتل
من جهة ثانية نجد شخصية العجوز "اريك" الذي تم الاتيان به الى الحفرة بسبب جريمة قتل ارتكبها عن غير قصد، وهي ناتجة عن غضبه من عرض لبيع اخر موديلات السكاكين على التليفزيون، حيث اشترى اخر موديل منهى بثمن مرتفع، ليكتشف مباشرة بعدها ظهور موديل جديد أخر. هذه الشخصية هي تجسيد لشريحة من الناس انتشرت بشكل كبير في المجتمعات الغربية، وهي فئة المستهلكين. هذه الظاهرة، أي الاستهلاك المفرط، تعد نتيجة مباشرة لنظام العولمة العالمي، والذي يشجع على الاستهلاك المفرط بغرض الاستهلاك فقط، من اجل الرفع من الطلب في الأسواق، وبالتالي الرفع من معدلات التصنيع، وجني المزيد من الأرباح. ان السبب الأساسي وراء ادراج شخصية مشابهة هو من أجل إعطاء حجة إضافية حول سبب افراغ مائدة الطعام قبل وصولها الى الزنازين الدنيا، حيث ان هذه الشخصية الاستهلاكية نقلت عادتها الى الزنازين، فأخذ صاحبها يستهلك الطعام بهدف الاستهلاك فقط ليلبي هذه الحاجة النفسية. في ذلك نجد رسالة على ان الاستهلاك المفرط الذي صار من اهم سمات النظام الرأس مالي، قد تكون له أثار سلبية على أشخاص من الطبقات الدنيا بمناطق أخرى من العالم، ومثال على ذلك المناجم في افريقيا التي تُشغل الأطفال لاستخراج مواد اولية لصنع الهواتف الذكية، ومصانع الملابس والجلد في بعض الدول الأسيوية حيث يتم استغلال الأطفال للعمل في ظروف قاهرة، بهدف تلبية الطلب المتزايد على هذه المنتوجات.
ما خفي أعظم
نجد شخصية رئيسية مهمة أخرى وهي "أنتونيا" والتي كانت موظفة بإدارة السجن قبل التحاقها به، وخلال 25 عاما من عملها هناك، لم تكل لها فكرة صحيحة حول الأوضاع الحقيقية بالسجن، مثلها في ذلك مثل باقي الموظفين بإدارة الحفرة، حيث كانت تعتقد عن حسن نية أن التضامن يسود فعلا بالزنازين، وان الحفرة تحترم حقوق الانسان كمنع التحاق الأطفال وغيرها. لكن "أنتونيا" انتحرت مباشرة بعد أن وجدت نفسها بزنزانة دنيا وعرفت ما ينتظرها هنالك من بؤس. فكرة أراد المخرج ربما ان يعبر من خلالها على أن العمل لصالح تنمية النظام الرأس مالي العالمي، يعتبر مشاركة غير مقصودة وغير واعية من الافراد في الجرائم التي يتسبب بها هذا النظام كل يوم. فكرة تعزز ما عبر عنه أول مشهد من الفيلم، حيث يظهر الاعتناء الفائق بشكل الوجبات ومظهرها، والرسالة هي أن النظام الاقتصادي الحالي رغم كل ما يتظاهر به من ديموقراطية واحترام لحقوق الانسان من أجل اخفاء الحقيقة على المواطنين، الا أن كل ذلك يظل شكليا فقط، اما الحقيقة فدائما ما تكون مأساوية للغاية. رسالة ثانية حملتها هذه الشخصية، وهي تضحيتها من أجل الاخرين، حيث ضحت بكلبتها من اجل اسعاف امرأة معطوبة، ثم ضحت بحياتها لانقاد بطل الفيلم من الموت جوعا، وهنا التضحية قد تشير الى دور المجتمع المدني داخل المجتمعات الذي يميزه حضور نوع من الإيثار في سبيل انقاد ما يمكن إنقاذه، لكن مرض هذه الأخيرة بسرطان في مرحلته الاخيرة، ومعناتها من تأنيب الضمير، سببين جعلهما المخرج كدافعين للعمل التطوعي بالمجتمع، حيث يرغب المتطوع دائما في التكفير عن ذنب ما، او إعطاء معنى لموته.
حلم الهجرة
نجد شخصية رئيسية أخيرة في الفيلم، وهي الرجل الأسود الذي كان مهووسا بالاعتلاء للطابق الأول، لكن عنصرية البقية ممن يعلونه حالت دون تحقيقه لذلك، وهنا نجد ترميزا واضحا حول حال المهاجرين من دول العالم الثالث الحالمين بالديار الغربية، كوسيلة لتحقيق الثروة السريعة والاعتلاء في المجتمع بسهولة، لكن العنصرية الغربية غالبا ما تجعل من حلمهم صعب المنال.
سيف المثقف
هناك شخصيتان كادتا ان تكونا عابرتين، وهما المرأة التي تنزل مرة كل شهر على المائدة، مارة بجميع الطوابق، تقتل كل من حاول اغتصابها أو أكلها، بحجة بحثها عن ابنتها المختفية. لكن النهاية فتحت باب التخمين حول ما إذا كان هدفها من الهبوط هو محاولتها لضمان وصول بعض الاكل لابنتها التي تخفيها بأحد الطوابق السفلى المهجورة، كمثال على سمو قيم الإنسانية حين لا ينم افسادها، هذه الشخصية ستموت في الأخير على يد بعض الشباب الجائعين. أما الشخصية الثانية فهي الابنة التي سيرسلها البطل الى الأعلى صعودا عبر المائدة، بعد محاولته الفاشلة لمرافقة الطعام وتوزيعه بعدل على السجناء لضمان حق الجميع في الاكل، وذلك في ترميز واضح لأهمية التوزيع العادل للثورات، الشيء الذي لا يحدث في عالمان بسبب سياسة الاستهلاك بالمجتمعات الغربية ذات الأفضلية العرقية على باقي العالم. كما يتضمن إشارة الى أن افساد الافراد بمخرجات العولمة المشابهة، باتت عائقا أمام نجاح الثورات في العالم.
الرسالة المقدسة
جعل البطل من الطفلة رسالته المقدسة لإدارة الحفرة، ليخبرهم ان القوانين المعتمدة ليست صالحة بالمرة، وان الواقع بعيد كل البعد عما هو مصرح به. فالحفرة التي كان يمنع على الأطفال ولوجها، تبعث لهم طفلا اليوم. كما ان اختيار الطفلة الاسيوية لتكون رسالة العالم لقادة النظام الرأس مالي، إشارة الى الامل الكبير الذي نضعه في المستقبل، وعن أهمية التضحية في سبيل انقاذ الشعوب المضطهدة وحماية الأجيال القادمة، مع تمكينها من وسائل المقاومة والدفاع، أملا في غذ مشرق.
Mounir Neddi منير ندي