سرى نبضي للقياكم وبكَّر.. ينشد السقيا من ينابيع الكوثر.. كيف لا والبعد أظمأ قلبه؟!.. وجفف المدامع والمشاعر أقفر؟!.. همست أشواقي للزمان تسأله.. وألحت جوارحي ولساني كرر.. أي لقاء أقدس من هاهنا؟؟!!.. وأي عناق من عناقنا أطهر؟؟!!

بعد أن قلب موظف الحجز أوراقه وبحث بين أسماء المسافرين، اعتذر قائلا:

- آسف يا أخي، ولكن حجزك لم يتم تأكيده، لذلك لا توجد أماكن إلى المدينة المنورة.

• ولكني أخبرتك بأنني سأحضر حسب الموعد، ولو أنك انتظرتني بعد انتهاء عملي بالأمس لحضرت إليك ودفعت لك مقدما. 

- هل حجزت السفر مع الإقامة؟ 

• لا، بل سفر فقط، فالإقامة ستكون معهم. 

- مع من؟ 

• لا عليك، المهم الآن هل توجد أماكن؟ 

- آسف، فجميع المقاعد محجوزة. 

• لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ما العمل الآن؟ كنت أود أن ألقاهم في أرض الهجرة لنقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينطق لسان حالنا: (نحن المتحابون في الله، التقينا في بيت الله، نتعلم ونعلم كتاب الله، متلمسين خطا رسول الله، وها نحن أولاء قد جئنا نلقي السلام عليه راجين أن نكون من إخوانه الذين حدث عنهم صاحبيه المكرمين, وباقي صحابته رضوان الله عليهم أجمعين)، ومن ثم أرافقهم في تلك الحافلة الإيمانية إلى (مكة) أحب بقاع الدنيا إلى قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، رحماك إلهي رحماك ورفقًا بقلبي المعنى، ولا تطل يا إلهي ساعات الإنتظار للقياهم.

ماذا أفعل الآن؟

يا رب ساعدني يا رب، بدد حيرتي يا إلهي!!

دعوت الله مخلصًا بكل جوارحي،ثم نظرت باتجاه المنزل الذي لم يكن بعيدًا عن مكاتب الحجز الخاصة بالحج والعمرة في مدينة الرياض، وقررتُ أن أسافر بسيارتي مع أنني كنت قد ألغيت هذه الفكرة لرغبتي الشديدة بأن أصل مرتاحًا نوعًا ما كي أمضي أطول وقت معهم في المسامرة والاستماع إلى تلك الأحاديث التي يكاد شوقي إليها يفتك ببقايا قلبي المنفطر من لوعة الغربة، وألم الفراق المزمن، وما كدتُ أخطو خطوتي الأولى خارج المكتب حتى صاح الموظف:

- إذا أردت الذهاب مباشرة إلى مكة فيوجد أماكن. 

• ومتى الوصول؟ 

- غدًا صباحًا. 

• والعودة؟ 

- بعد صلاة الجمعة مباشرة. 

• على بركة الله. 

تأخر قليلا انطلاق الحافلة من مدينة الرياض، ومع أن جميع المعتمرين بدأوا في التململ والشكوى من التأخر، إلا أنني شعرت أني أكثرهم شكوى، وأكثرهم تحرقًا لبدء الرحلة، ربما لأن أسباب اعتماري –من وجهة نظري– أوجه منهم جميعًا!! فلن أصدق أن بينهم من سيلتقي بمثل هذا العدد من إخوانه في الله بعد كل هذه السنين الطويلة، وما خبأته أيامها من أحداث وتطورات، فها هم التلامذة قد أصبحوا معلمين، والشباب اليافعون قد أصبحوا رجالا، وكم من أعزب تزوج! وكم من متزوج صار ذا ولد! وكم من مبتدئ بالحفظ قد أكرمه الله بالختم مع الإتقان! وكم..... وكم....؟!

توقعات واحتمالات وتخيلات ملأت ساعات الرحلة الطويلة، وما شعرت إلا وجبال مكة وشعابها قد أحاطت بي وكأني وحدي أسير بينها تتراءى لي من خلالها خيالات الأحبة بثياب الإحرام البيضاء التي تحاكي قلوبهم الأكثر بياضًا، كيف لا وهي أوعية لكلمات الله، تفيض منها مشاعر الحب في الله، جمعتهم في رحلة مباركة إلى بيت الله.

ما إن انتهيتُ من مناسك العمرة عن والدتي حتى بادرت بالاتصال بأميرهم:

- أين انتم الآن؟ 

• غادرنا الفندق متجهين إلى الحرم. 

- أين ألقاكم؟ 

• عند باب العمرة. 

- ألن ندخل من باب السلام؟ 

• طبعا سندخل جميعا إن شاء الله. 

يا الله!

ما أجملَ ذلك المنظرَ، ما أروعَ ذلك اللقاء، ما أصدق ذلك العناق، ما أقدس مشاعر وإحساس المحبة في الله، أجل، محبة لم يخالطها نسب ولا مال ولا مصالح دنيوية، فاستحق من أسكن هذه المحبة قلبه أن يكون ثوابه في الآخرة مجالس من نور، واستحق المتحابون ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم أذق حلاوة هذه المحبة قلب كل مسلم ومسلمة يا أرحم الراحمين.

- أين إبراهيم ومحمد ونضال وزيد و.. و.. و..

• سيأتون في المرات القادمة بإذن الله. 

- هل أنت بسام؟  

• لا، أنا شقيقه غسان. 

- وأنت ما أخبار قريبك عبد الرحمن؟ 

• أصبح مدرسًا، وهو يؤدي خدمة العلم الآن. 

- وما أخبار والدك يا باسل؟ 

• الحمد لله، وحملني إليك التحية والسلام. 

- أي الحلقات تدرس الآن يا قاسم؟ 

• في هذه الدورة لم أستطع المشاركة، لكن في الدورة القادمة سأشارك إن شاء الله. 

- هل عرفتني يا أستاذ؟ 

• أنت .... !!! وتداخلت الأسماء والوجوه، ووددتُ لو أعددَ له كل الأسماء لأنني أرى الجميع في وجوه من كتب الله لهم اليوم اللقاء ها هنا بجوار بيته الحرام. 

أما الحديث مع من خصهم الله فأوكل إليهم إدارة أمور المعهد فجرى كأمواج نهر متدفق كلما كادت موجة الإجابة على تسائلي تصل منتهاها، استفززتُ أختها بسؤال مختصر، أو إشارة سريعة كي أروي ظمأى.

وهيهات.. هيهات أن تروي أمواج البحر ظمأ العطاشى!!!  

مرت كالبرق -أو ربما أسرع- ساعاتُ ذلك اليوم، وأضمرتُ في نفسي أن يقتصر الوداع على أقل عدد منهم، فلست أقوى على الوداع مرة أخرى، لاسيما وأنني ما زلت أذكر ذلك الوداع منذ عشر سنين تقريبًا إذ أنهت كلمةُ احد الأحبة تجلدي وتصنعي الصبر

- صل بنا آخر صلاة لك معنا يا أستاذ.  

• الله أكبر..........  

• الحمد لله رب العالمين....  

بعدها و مع كل حرف ألف دمعة وحسرة لم تنتهِ إلى يومي هذا!!

كان اللقاء في الحرم.... سقيا شفاء من عذاب وألم.... طال الحنين وتعملقت آهاته.... تُزكي الجراح يحدوها الندم.... غص السؤال بجوفي علقما.... ألم يكن للبعد بديلا ألم؟؟