" فكم رأيت من أناس كانوا أذكى مني وأمتن خلقا وأقوى عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل على أنهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثم باءوا بالخيبة ومنوا بالإخفاق، ولا تعليللها إلا أن ﴿ذلِك فَضلُ للهِ يؤْتِيهِ من يشَاء وللهُ ذُو اْلَفضلِ اْلعظِيمِ﴾ ".
بهذه الكلمات اختتم أحمد أمين سيرته الذاتية "حياتي"معترفا بفضل الله ومنه عليه بالعلم ،و الصبر ،و التوفيق؛توا فرغت من قراءة هذا الكتاب الشيق الذي تجد صاحبه بسيطا حين يحكي ، واضح الأسلوب حين يعبر،دقيقا في الوصف حين يصف،شديد الإيجاز حين يعرض ،فهو يستلهم صوره من الواقع البسيط الذي يحياه،لذلك تجده في إخلاصه لهذا الواقع لا يتردد في استعمال ألفاظ عامية أو مقولات محلية إذا كانت ستفي بالغرض،وتوصل الفكرة إلى القارئ بشكل واضح و سلس ،ولقد استطاع أحمد أمين رغم بساطته ،أن يؤرخ اسمه في سجل الكتاب الذين لهم الفضل في تنوير أجيال من أبناء الأمة العربية، ومن أجمل ما أعجبني في هذه السيرة صدق الرجل و عفويته ،فتحس أن كلماته نابعة من عاطفة فياضة وشعور قوي ، وأقل ما يقال عنه أنه مدمن قراءة ،وما أحوجنا إلى هذا النوع في أيامنا هذه حيث انتشرت الكتب وصارت متاحة للجميع،فوجدنا شبابا لا يحسن قراءة نص فما بالك أن يحتمل صبر الكتب الطويلة !رأيت أيضا الدور الذي تلعبه الأسرة في صنع العظماء، وتوجيههم نحو الصلاح، ومراقبة دراسة أبنائهم ،وتتبع تكوينهم. وللأسف نجد الآباء اليوم منشغلين عن أبنائهم،وقد نسوا مهمتهم الرئيسية التي تكمن في رعاية أبنائهم ،ومراقبة تصرفاتهم ؛تجد الأب أو الأم يتعب نفسه في سبيل تحقيق الكماليات لأبنائه بدل أن يعودهم على بساطة العيش، و يوجههم إلى مكارم الأخلاق.قد تكون المرحلة التي عاش فيها أحمد أمين (1886-1954)تختلف عن حياتنا الحالية لكن يبقى القاسم المشترك هو أن الأب لابد أن يكون حازما مع أبنائه في التربية،لابد أن يشغل أبناؤه حيزا من تفكيره اليومي،لا أن يقتصر دوره على توفير المأكل ،و المشرب ،و الملبس، والسفر، والألعاب ،كذلك القدوة الحسنة تلعب دورا كبيرا في مستقبل الابناء فالابن يتأثر بسلوك من حوله،فاذا كان الجو في البيت هادئا تتوفر فيه أسباب القراءة و التعلم فلاشك أن هذا سيكون مشجعا للأبناء على المعرفة ،و التحصيل الذاتي؛وأود أن أقف عند مسألة التحصيل الذاتي،كيف نستطيع أن نبث حب القراءة في نفوس أبنائنا ،في ظل ما يحيط بهم من فتنة؟ الألعاب ،مواقع التواصل الاجتماعي،الأفلام،و،وغيرها كثير ممن يجعل الآباء منشغلين بشاشات الهواتف ،ناهيك عن الأبناء....الأمر ليس سهلا كما قد يظن البعض،فحتى المدارس لم تعد تشجع على كثرة القراءة ،بل نجد نصوصا هنا وهناك لا تنمي الحس الجمالي،ولا تثير غريزة القراءة لدى الناشئة ،وهكذا يتخلف الآباء و المدارس عن التكوين الجيد و المحفز للتلاميذ.
يجد القارئ كتاب حياتي لأحمد أمين مليئا بعناوين الكتب،فمنها الأدبي،و التاريخي،والفقهي،و النحوي،والقانوني و غيرها مما يدل على أن الرجل عاش بالكتاب إلى جانب الطعام،وهذا ما ينبغي أن يجعلنا نسير على منواله فالعلم يرفع صاحبه،ويعطيه قيمة في مجتمعه،خلافا لصاحب المال الذي يخمد ذكره بمجرد وفاته،فكم من الأغنياء عاشوا زمن أحمد أمين؟من هم ؟لانجد لهم ذكرا ،ربما قد تآكلت أسماؤهم في سجلات الحالة المدنية !القراءة مطلب ضروري للجميع ،التاجر و العامل و الطالب.من الإشارات الجميلة التي جاءت في سيرة الكاتب وجود بعض أصحاب المقاهي وغيرهم ممن كانوا مهتمين بكتابة الشعر أو تتبع الأحداث السياسية،فالقراءة ليست مقتصرة على الطلاب بل هي مرغوبة للجميع ،فبها يرقى المجتمع بمختلف طبقاته،وحبذا لو نعود إلى أدبنا العربي،ففيه من الرقي العلمي والذوق الفني ما قد ينهض بجمودنا الفكري الحالي فتنفتح قرائحنا على العطاء ،والبذل،و الإنتاج،فينعكس ذلك بلا شك على إنتاجاتنا السينمائية ،وعلى عروضنا الفنية و على حياتنا بشكل عام.لازالت سيرة أحمد أمين تنطوي على الكثير من الفوائد و الملاحظات القيمة،وأدعو الجميع إلى قراءتها،متعة طيبة.
