د. علي بانافع
احترت في اختيار عنوان لهذه المقالة، هل اُعنونها بـــ "وقفة بين الاستاذ والتلميذ" أم بـــ "مقام الاستاذ والتلميذ"، فاخترت العنوان الثاني فمعلوم أن الوقفات والمواقف بين الاستاذ وتلميذه كثيرة جدا، ولكن المقام مختلف تماماً قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]. شبابُنا الطموحين يحتاجون إلى ترسيخِ الأخلاقِ الإسلامية والقِيم والمبادئ التي استقيناها من قرآننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، والتي توارثناها عن آبائنا وأجدادنا من توقير الكبير، أيًّا كان ذلك الكبير في السن أو في العلم أو في المكانة والمكان والمقام.
كثيرا ما نسمع في الأمثال السائرة والدارجة، ونقرأ في الكتب والأدبيات العربية -وبصيغ متباينة- ذات مضمون واحد خلاصته: (صانع الاستاذ استاذ ونص) ونحو (ربما يتفوق التلميذ على استاذه)، والحقيقة أن كفاءة وهمة وطاقة الاستاذ في صنعته وحرفته ومهنته قد تراجعت بمرور الزمن إلى النصف، إما لعارض صحي أفقده الرغبة في الابداع، أو لكبر في السن أفقده المقدرة على الاتقان، أو لضعف في الحواس كالبصر والسمع واللمس، أو لشعور تمكن منه بدنو أجله وتفاهة الحياة، ما يُصَيِّر تلميذه استاذاً زائداً نصف استاذ بنظر الناس وهو ليس كذلك لا واقعاً ولا مجازاً ولا في الاحلام من وجهة نظري الخاصة.
صحيح أن هذا التلميذ وفي أية صنعة وحرفة كانت يستثمر -مرغما- التغيرات التقنية والعلمية والاجتماعية من حوله في مجال عمله، ما يجعله يأتي بمالم تأتِ به الاوائل، حتى انه ليبدو للناظرين على أن ما يقدمه ابداعاً فيما هو في حقيقته ابتداع يواكب المتغيرات الجديدة والمستجدة لا أكثر، وإلا قل لي -بربك- أين يمكنك أن تجد هذا الابداع وتتلمسه في عالم النجارة -مثلاً- والتي كانت كلها تُصنع من خشب الساج الجاوي أو السيسم الهندي الأصلي المحفور، التي ابدع بها الآباء المؤسسون للصنعة، مقارنة مع الخشب المضغوط mdf الفالصو المغشوش، التي ابتدعها تلامذتهم بذريعة خفض النفقات مع أن أسعارها تفوقت على سلفها بأضعاف مضاعفة، وفي عالم الخياطة -أيضاً- كان الخياطين المحترفين -بالأمس القريب- وهم يستعملون أرقى الأقمشة الأوروبية واليابانية ليخيطوا منها أجمل الثياب -ولا أروع- لطالما تباهى بلبسها علية القوم من الأعيان وكبار التجار والموظفين، مقارنة بخياطي اليوم ممن لا يجيد اغلبهم سوى كف أو قص الثوب من الأسفل والأكمام من الأعلى لا أكثر.
كذلك المحترفون في عالم السيارات من سائقي سيارات الأمس (القير العادي) وهم يجيدون تصليح كل صغيرة وكبيرة في سياراتهم، أيمكن مقارنتهم بسائقي اليوم (القير الاوتوماتيك) ممن لا يجيد معظمهم غير الجلوس خلف المقود (الدركسيون) مع بعض التقليعات والخمسات والفراريات، والحديث يصدق على كل أرباب وتلامذة المهن عموماً -ولكل قاعدة استثناء حتما- لقد شاهدنا ان الحِرف تتراجع والأساتذة وأرباب الصنعات يتناقصون ويكاد ينعدمون، وعلى الآباء المؤسسين في كل مجال بما فيها التخصصات النظرية كالتربية والتعليم والسياسة والإعلام … الخ أن لا يضيقوا واسعاً على تلامذتهم، وان لا يُحجموا إبداعهم، ولا ينتقصوا من ادائهم -وان كان هذا الاداء ابتداعا في الصنعة- لأن الشباب إنما يواكبون المتغيرات يستوعبونها ويهضمونها أكثر من أساتذتهم، في ذات الوقت الذي تَوجب فيه على الجميع أن يدركوا جلياً بأن التلميذ لن يتفوق على استاذه ولن يكون يوماً استاذ استاذه ابداً ولا نصيفه وأن بدا للناظرين كذلك ولابد من إنزال الناس منازلهم.