كثيرا ما أتساءل لماذا يكتب الآخرون؟بل كيف استطاعوا أن يكتبوا كل ماكتبوه؟هم حتما يقرؤون،و يبحثون لكن لماذا يكتبون؟آخذ القلم وأحاول الكتابة،لكن سرعان ما أجد ما كتبته لاقيمة له،ولا فائدة يستفيدها منه القارئ، أمزق ورقي وأحمد الله لأنني لم أتجرأ على نشره وإلا كنت محط سخرية وازدراء الآخرين ،أخاطب نفسي لماذا أشغل قلمي بالكتابة؟إن هذا القلم ذو الحظ العاثر كان أجدر أن يكون في يد كاتب متمرس فيحرث أسطر هذه الورقة المسكينة بالأفكار النيرة و الجمل المضيئة ويحشوها بالبذور الطيبة التي تثمر علما طيبا يسنو العقول معرفة وضياء كما يسنوالسَّحَابُ الأرْضَ بِالْمَطَرِ،هذه الورقة البلهاء التي رمت بها على مكتبي المشؤوم ،أتراها تنوء بحمل كلماتي المعتوهة ؟؟
أول ما أبدأ الكتابة أجد ني في صراع مع اللغة،كيف أفك رموزها لتناسب شفرات أفكاري،أجدها أحيانا مطيعة تضحك في وجهي ،وأحيانا أخرى عصية شاقة تتجهمني وتجعلني أتبرم بالكتابة ،وأستاء من كل شيء.ومع كل هذا التردد في الكتابة أتذكر قول أحد الكتاب: "إذا أردت أن تصبح كاتبا، اكتب" فأتشجع و أطمع في أن أصبح كاتبا،وأسترسل في الكتابة فأنسى قلقي وأجد شخصا آخر يؤنسني في هذا الطريق الموحش هذا الشخص هو أنا، شخص يعرفني تمام المعرفة يعرف أنني لا أقول الحقيقة فيوقفني و يجعلني أخجل من نفسي ،يحس بخوفي من هذه الحقيقة فيوبخني قائلا:ماذا تفعل هذا ليس من خلق الكتاب ،لماذا هذه العبودية أكتب يا أخي نريد أن نشعر أنا و أنت بالحرية،الخوف الخوف أوه !!!!،،،سئمنا من هذه الكلمة حتى في الكتابة نخاف،دع الخوف للحياة فقط لكن هنا لا مجال للخوف، قل ما تشاء فإذا أردت أن تشعر بالحرية فإنك في الطريق الصحيح إليها.
يصمت مخاطبي قليلا ،ثم يسترسلا ضاحكا:أنا أعرف أنك تخاف من مواجهة اللغة.
(أصمت خجلا وأهمس في جبن:وكيف عرفت ذلك؟)يصيح بي غاضبا:كيف عرفت ذلك أتريد أن تخفي شيئا عن نفسك لقد حيرتني ،لقد مللت هذا الصدر الضيق الحرج ،أصمت....
فأصمت ويعود الهدوء، و يستقر التفكير، فيعود مخاطبي محاولا تلطيف الجو:أتدري أن اللغة أول منازل الكتابة؟فقط اصبر فتجد نفسك تجاوزت هذا المعبر الحدودي الصعب بينك و بين أفكارك،حينذاك يمكنك أن تترجم أصعب النصوص،صحت به قائلا:وماهو أصعب النصوص؟؟ أجابني متهكما:أنا أصعب النصوص،نفسك التي بين جنبيك، سترى أن الكتابة ستجعلك في صراع مستمر معي،فأنت لاترى العالم إلا من خلالي،لا يمكن أن تتجاوز ذاتك مهما حاولت،هذا إن لم تكذب بطبيعة الحال ،كما كنت تود أن تفعل قبل قليل.
(يلاحظ مخاطبي احمرار وجهي) فيعلق قائلا:لابأس، لا زلت بصحة جيدة مادمت تخجل هههه، هذا يعني أن عندك دم يعلو و ينزل ،ثم يرتفع صوته فجأة فيهتز جسمي اهتزازا ،إذا فاكتب من هذا الدم إذا أردت أن تكون كاتبا ناجحا أكتب بهذا الدم ودع الحبر للجبناء أفهمت؟؟؟ وتذكر أنك ستصير كاتبا مع بداية النزيف !!!
لاحظت أنني أصبحت إنسانا أبكما منذ بدأت الكتابة، بينما تولى هذا الشخص بداخلي الكلام، لقد تمادى حقا ،إن الكتابة فعلا تحرك صوت الضمير،و تجعلك تقول ما عجزت عن قوله أمام الملأ ،تجعلك تفكر، تجعلك تبوح بالمشاعر، تحكي ماسوى المظاهر، تظهر ماتخفي السرائر ،تخرج بكل المصطلحات التي تفيد الخروج أي أنها تجعلك تطرح ما بداخلك و تنسى الهموم والآلام كما تجعلك أيضا تفيق الجروح الساكنة،وتجعلك دقيقا في ملاحظاتك .
أخذت الورقة ،وهممت بالكتابة فسمعت ذلك الشخص من جديد ينبهني ويتوعدني:ما أجمل بياض هذه الورقة !!! ،لاأريدك أن توسخه بالآراء،أريدك أن تخط ماينبع من العقيدة؟؟أريد كلاما من القلب أفهمت؟ صاحب الرأي زائل سريع الانقياد،يغير رأيه كل حين،لايكاد يستقر على حال ،فاليوم رأي وغدا رؤيا ،فيمل القارئ من كلامه و يتركه المؤمن بأفكاره.مأأاااتتننن أما صاحب العقيدة ،فينهل من معين صادق لايمكن أن يشترى بمال ولا يغير أقواله أبدا،إذا كنت تريد أن تقول كلاما يطير في الهواء ،فلا يستقر على صدق، ولا يثبت على حق ،فدع الورقة نظيفة بيضاء كفى بالبياض معبرا عن حالها،أما إن كنت تريد أن تطرزها بصدق كلامك ونبل مشاعرك فتفضل.
أيقنت الآن أن هذا الشخص ذو أخلاق وأذواق لكن..... أنى لي أن أكتب بصدق ! وهل توجد حقيقة أصلا فأقولها؟،هل أحكي عن بؤسي وشقائي،هل أفضح العالم من حولي،ثم من أين آتي بكلام أعتقده،فأنا لاأكاد أومن بشيء حتى يخرج من يشكك فيه ويدعو إلى نبذه و يبين نقائصه،هل أكتب عن الحق مثلا؟وأين الحق لا تكاد تجد له صورة ولاحتى خيالا،قد ترى ظله أحيانا لكن سرعان ما يتلاشى مع أول أشعة الشمس .
لايهم مايوجد، الأهم أن أكتب حتى لا أموت ،لابد أن آخذ قرارا، يجب أن أكتب لا أريد كلاما،أريد حروفا منقوشة على الورق لا أصواتا تتناقلها الرياح، الكلام موت سريع و الكتابة حياة أبدية خالدة،سأكتب و إن أيقنت بأن من هذه اللحظة التي قررت أن أبدأ فيها الكتابة سيبدأ الموت !!