الله الواحد، والكون الدال على خالقه، والقصص القرآني، وقضية البعث والجزاء، وميدان التربية والتشريع.. هذه هي المحاور الخمسة التي ذكرها القرآن في غير موضع لعظم أهميتها.. وقد تناولها الشيخ الغزالي بالشرح والتفصيل بما يندرج تحت رايتها من قضايا كثيرة تمثل جزءا كبيرا من رسالة الإسلام.


المحور الأول: الله الواحد

تحدث الغزالي عن قضية الخوض في ذات الله -سبحانه- ومحاولة تصور (الحقيقة الإلهية) بالمخ البشري القاصر وبيّن مدى جهل وسفه من يحاول ذلك فهو أمر غير ممكن عقلا.. لأن "عظمة الله فوق العقول، والحديث عنه تبارك وتعالى من باب التقريب!" فخالق المكان والزمان لا يحويه زمان ولا مكان، وخالق المادة لا يخضع للقوانين المادية.

كما أن "وحدانية الله حقيقة أزلية أبدية" يؤكدها وحدة هذا الكون في نظامه وغايته، فهي قاطعة في أن الخالق واحد.

ثم عرّج على قضية (القدر والجبر والإرادة البشرية) والسؤال القديم الذي ما زال يطرح إلى اليوم وهو "هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟"

فيجيب بأن "البشر جنس محكوم ومختار في آن واحد، إنه محكوم بالإمكانات التي في كيانه والملابسات التي من حوله.. ومختار في موقفه من هذه وتلك" فنحن لن نُسأل أبدا عما لا إرادة لنا فيه، ولكننا نُسأل يقينا عما نملك فيه حرية الاختيار"

"فإن الله لا يكره أحدا على طريق الشر، ثم يدخله النار ومن تصور هذا فهو جاهل بالله طائش العقل!"


المحور الثاني: الكون الدال على خالقه

نحن مأمورون بالسير في الأرض لنتفكر في آيات الله الكونية في الطبيعة وفي أنفسنا لقوله تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }

"والتفكير فريضة إسلامية كما قال العقاد، والمجال الأول للفكر مادة هذا الكون".. فنحن "حين ننظر إلى أنفسنا وإلى عالمنا المحدود، ندرك أن الخالق قدير حكيم عليم، لا منتهى لكماله، ولا حدود للثناء عليه"

وقد ذكر الغزالي -رحمه الله- صنفا من المتدينين يفهمون أن طلب الآخرة على أنه كراهية الحياة وترك ميادينها لعربدة وفساد الآخرين وقد وصفه بالتدين المغشوش الذي لا يعبر عن حقيقة الفكر الإسلامي إطلاقا، "فدراسة الكون نهج قرآني واضح، لبناء الإيمان أولا، ولدعمه وحراسته ثانيا، ولمنافع البشر ومتاعهم ثالثا" والإيمان -كما يُفهم من القرآن- قدرة على الحياة في جميع دروبها، قدرة علمية ومادية يصحبها تطويع كل شيء لإرضاء الله وابتغاء وجهه.

ولكن الاهتمام بالدنيا لا يعني الانكباب عليها والغفلة عما سواها بل ينبغي أن تكون وسيلة إلى ما وراءها من غاية أسمى.

وقد عاب على الحضارة الحديثة أنها تكتشف الأسرار العظيمة ثم تقف حيث يجب أن تنطلق.. فهي قد عرفت الكون ولكنها جهلت ربه وجحدته.. كما ألقى باللوم على المسلمين المعاصرين أنهم لا يحسنون التصدي لتلك الحضارة بتقصيرهم في ميادين الحياة فجهلوا الكون ونسوا ربه وتجاوزوا هداه.


المحور الثالث: القصص القرآني

إن التاريخ -كما هو معروف- ذاكرة الأمة، ومستودع تجاربها ومعارفها، وهو عقلها الظاهر والباطن، وخزانة قيمها ومآثرها، وأساس شخصيتها الغائرة في القدم والممتدة مع الزمن.. وبالتالي فإن دراسة التاريخ فريضة دينية وهي إلى جوار ذلك فريضة إنسانية.

والقصص القرآني ليس فقط تأريخا للأشخاص والأحداث بل هي عناصر تربية وبيان للعقائد والآداب، فهي قطع من الحياة الماضية استرجعها الوحي الأعلى للتعليم والاعتبار.. لنرى من سبقونا في هزلهم وجدهم، وغيّهم ورشدهم، واعتدالهم وكبريائهم، واستقامتهم واعوجاجهم، وهي روايات للواقع المضبوط لا مكان فيها للخيال.

ومما يتميز به القصص القرآني أنه يتكرر في مواضع متفرقة، فهل يعد ذلك لونا من التكرار الذي يغني قليله عن كثيره؟

الجواب -كما وضح الغزالي-: "لا، فلكل قصة في موضعها إيراد مقصود وأثر مغاير، يحتاج إليه السامع لتكتمل به الحقيقة التاريخية والعناصر التربوية"


المحور الرابع: البعث والجزاء

إن الحياة الدنيا ميدان اختبار ودار ابتلاء وقد يقع فيها من الظلم والجهل والتزييف ما يقع، فهي ليست موعدا لإقرار العدل.. ولذلك لا بد من يوم ترد فيه المظالم وتصحح فيه الموازين المختلة والأوضاع السقيمة .. لا بد من يوم القيامة!

والبشر ما زالوا بحاجة ملحة إلى تذكر هذا اليوم.. لكبح جماح غرائزهم ومطامعهم الدنيوية المادية والتي تنميها وتذكي نيرانها الحضارة الغربية المعاصرة.

والإنسان كما كان في الدنيا جسدا وروحا.. سيبعث في الآخرة أيضا جسدا وروحا. أما القول بأن الأجسام ستفنى فلا تعود، وأن الآخرة مسرح للأرواح وحدها، وأن ثوابها وعقابها معنوي يشبه تأنيب الضمير أو راحة الضمير، قول باطل لا أساس له.


المحور الخامس: ميدان التربية والتشريع

"إن التربية الصحيحة تقوم على وعي عام بغايات الوجود، ثم على وعي مفصل بمعالم الكمال التي أسهب الدين في شرحها، واستفاضت أنباؤها في الكتاب والسنة" والتربية الناجحة مهمة شاقة وتحتاج جهد وصبر، فصناعة الإنسان من أعقد الصناعات في هذه الدنيا!
وهنا يظهر البون الشاسع بين الحضارة الربانية وثيقة الصلة بالله -عز وجل-، وبين الحضارة المعاصرة التي تصف نفسها بأنها إنسانية. "إن الإنسانية صفة شريفة، ولكن علاقتها بالله هي التي تصونها، وتمنعها من الانحدار إلى درك الأنانية، والعكوف على مآرب الدنيا!"

وأول معاني التربية تتحصل بعرض أعمالنا دائما على مقياس (ما يحبه الله، وما لا يحبه الله).. فنمتثل ما يحبه سبحانه، ونجتنب ما لا يحبه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. وهي أمور تتسم بالعموم، وحين يستصحبها الإنسان تحصل بها زكاة نفسه.