منذ سنة ونصف كنت أتابع مباريات كرة القدم الأوروبية بشغف شديد، لا أكاد أترك مباراة لريال مدريد أو ليفربول بل وتوسع الأمر ليشمل متابعة يومية بشكل مكثف لكل أمور الانتقالات الشتوية والصيفية (الميركاتو) بشكل هاجسي، حتى أيام الامتحانات لا أستطيع إيقاف رؤية المباريات، وكذلك السوشال ميديا وهاجس الاشعار - Notification، حالة عارمة من المثيرات السمعية والبصرية ولربما الحسية التي كادت تغلب على عقلانيتي.
بافلوف وتجربة الاستجابة الشرطية:
قام إيفان بافلوف (احد أشهر مؤسسي المدرسة السلوكية في علم النفس) بتجربته على الكلب، حيث قدم له طعاما فسال لعاب الكلب، ثم أزاله فاختفى الللعاب (استجابة طبيعية نتيجة المثير الطبيعي)
ثم وضع الطعام مع الشوكة الرنانة عدة مرات وكان لعاب الكلب يسيل، ثم باسلوب علمي أزال تدريجيًا الطعام (المثير الطبيعي) حتى جعل اللعاب يسيل مع الشوكة الرنانة فقط (المثير الشرطي)
ومن هنا استنتج الأمر الذي أسماه (الاستجابة الشرطية) وهو:
ان الاستجابة الشرطية (غير الحقيقية او غير الطبيعية) بمثير شرطي (غير طبيعي) يحدث في أدمغة الحيوانات لأن ادمغتها غير متطورة بما يكفي لتحليل المثيرات العصبية، السمعية أو حتى الحسية، وهذا يختلف عن الانسان الذي يحتوي دماغه على محللات حين قال:
"من الناحية الحسية يتركب الدماغ من محللات للمنبهات الجزئية المقترنة بالمنبهات الفيزيقية الطارئة على الكائن، ومن الناحية السلوكية الحركية فإن مهمة العقل تتركب من المنعكسات الشرطية، فالسلوك المكتسب مكون من أفعال منعكسة شرطية"
ما أخبرنا به بافلوف أن الإنسان لدى مخه المتطور عن كافة الحيوانات، به محللات للمثيرات ويقوم المخ بربط المثيرات بأثرها النفسي علينا ليقوم بالاستجابة فتظهر الاستجابة على هيئات ثلاث من الحالات النفس عصبية: وهي محللات للمثيرات ومعالجة كل ما يأتينا من الطبيعة
- نفس بصرية
- نفس سمعية
- نفس حسية
"المبادئ الثابتة تولد سلوكا واضحا.والسلوك الواضح ينتج شخصية محددة المعالم"
هكذا أخبرنا كريم الشاذلي، الغريب في الإنسان الحديث انه فقد ميزته التطورية عن بقية الكائنات الحية، فأصبح شره لكل مؤثر يطرأ عليه، بل إن هدأ وسكن يبحث هو عن ما يثيره ليستثار، وكأنه بشكل ما أو بأخر اصبح غير قادر على العيش دون استثارة وكذلك غير قادر على تحليل أي مثير خارجي يطرأ عليه، فأصبحنا نستثار يوميًا حتى وصلنا لمرحلة أننا محونا القدرة على فهم ما يتعلق بمآلات الأمور حولنا بل في داخل نفوسنا أيضًا، ويكأن حالة التشويش لم تصبح خارجية فقط، بل لا ندرك أنفسنا على أحوالها أيضًا
"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"
بل ما يزيد ويثير غرابتي هو ما أخبر به بافلوف عن سلوك الحيوان في التجربة وهو ما سماه
(الاشتراط من درجة عالية): كلما زاد الاقتران بين مثير أو منبه طبيعي ومثيرات متعددة شرطية، كلما قلت استجابة الحيوان للمثيرات المتعددة واستجاب فقط لمؤثر واحد فقط او اثنين.
فبدلًا من تطوير محللاتنا للمثيرات والمنبهات الطارئة علينا لننعم بحياتنا، ولنكون الإنسان الذي هو مفضل على سائر الكائنات بما لديه من قوة وفهم وتحليل وضبط وبيان وذلك بـ(عقله)، فقدنا خاصيتنا تلك، بل ووصلنا بها لمرحلة الاضمحلال التام، حتى إننا صرنا أكثر تأخرًا عن السلوك الغرائزي الطبيعي، ونستجيب لأكثر من مثير في وقت واحد.
أذكر نفسي جيدًا -وبصراحة- وأنا اكتب مقالي هذا وفي بدايته كنت أنوي سماع شيء ما أثناء الكتابة، حتى لا أشعر بحالة الصمت الكوني التي أنا أعيشها الآن عند كتابة تلك السطور، إن حالة الاستثارة التي وصلنا لها باتت مؤسفة، صرنا في حالة يرثى عليها تقريبًا نحتاج لسكون كثيف حتى نستعيد طبائعنا التي فطرنا الله عليها ونستعيد ما نسميه (إنسان) الذي فقد ما يميزه كـ(إنسان)، غاية ما أتمناه أن لا نصل للمرحلة التي قال الله فيها:
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا
كيف العلاج إذن؟
"والحكيم لا يضجر ولا يضيق ولا يتململ، كما أنه لا يسخف ولا يطيش ولا يسترسل في كذب الوهم؛ فان هذا كله أثر الحياة البهيمية في هذه البهيمة الإنسانية، لا أثر الروح القوية في إنسانها. والحيوان هو الذي يجوع ويشبع لا النفس. وبين كل شيئين مما يعتورُ الحيوانية كالخلو والامتلاء، واللذة والألم - تعمل قوى الحيوان أشياءها الكثيرة التي تتسلط بها على النفس لتحطها من مرتبةٍ مرتبةٍ إلى أن تجعلها كنفوس الحيوان؛ ولهذا كان أول الحكمة ضبط الأدوات الحيوانية في الجسم، كما توضع اليد على مفاتيح القطار المنطلق يتسعر مرجله ويغلي."
الرافعي - قلت لنفسي وقالت لي
- لا تتململ
- لا يطيش
- لا يسترسل في كذب الوهم
- أملء جوفك بالخير والنافع حتى لا يمتلء بالفارغ الضار
- ضبط الشهوات والغرائز الحيوانية فينا
- أعطِ وقتًا للمساحات التأملية
- لا اعرف طريقة أفضل للنصح بها (اهدء)
- اخيرًا تدرب على ماسبق