21 شعبان 1441 هـ
15 أفريل 2020 م
ارتأيتُ أن أكتبَ لكم جُملة من التوجيهات، عساها تُنير دروبكم؛ لاسيَّما تجاه أولئكَ الذين أساؤوا إليكم.. منها:
01)_ إذا أساءَ إليكَ أحدٌ في تعليقٍ ما، فأحرى بكَ ألَّا تدخل معه في مدٍّ وجَزرٍ، واذهب لحظره دون مُماطلة، ولا تحسبنَّ أنَّ طول الرُّدود عليه يُربِّيه، فمن لم يُرَبِّهِ والديه في الواقع لن تُربِّه أنتَ في المواقع.
02)_ ما مِن أحدٍ إلَّا وخاضوا فيه، وتناولوه كما تُتناول السَّلَطة، وليس المحزن أنْ يتكلَّم الناس فيكَ بالسُّوء، إنَّما المحزن أن يكون فيك ذلك السوء الذي تكلَّموا فيه.
عادةً حينما أسمعُ عنِّي ما لا يُرضيني أُسارع لفعل شيء مُهم: أدعو الله تعالى بهذا الدعاء: «اللهمَّ إن كنتَ تراني على حق فثبِّتني عليه، وإنْ كنتَ تراني على باطل فَاهْدني للحق، فإنه لا يَضلُّ مَن هديت، ولا يُهدى مَن أضلَّيت، يا من بيده الهدى والضلال، والقلوب تحت أصبعين مِن أصابعه».
ثم أتصدَّق على محتاج بما يسَّر الله تعالى لي.
وأذهبُ للمسجد من أجل تَكرار ما تيسَّر لي من حفظ القرآن، تَكرار وُدٍّ لا وِردٍ فقط، فقد تعلَّمتُ ذلكَ من مولانا الشَّعراوي حينما قال: «القرآن علاقة وُدّ وليس وِرد».
ثم أخلو بنفسي لكتابة مقالٍ عن هؤلاء، فالكتابة تُنظِّف ما عَلَقَ في مِن همٍّ ووسوسة!
03)_ إنَّ الكثير من الناس يُحبُّون الكثرة في كلِّ شيء إلَّا الأدب، فإنَّهم يُفضِّلون قلة الأدب عن كثرته، فتراهم يتسارعون إلى الشَّائعات، والطعن، والغِيبة... ويخوضون فيكَ كما لو أنَّهم شقُّوا على صدركَ.
مَثل هؤلاء، لا تنفق عليهم من وقتكَ الثمين للردِّ عليهم، بل احْظرهم، واكتب عنهم مقالًا جميلًا تضيفهُ لرصيد كتاباتكَ.
04)_ إذا تورَّطت في موقف كنتَ فيه مخيَّرًا بين أنْ تكون شجرة أو فأسًا، فلا تتردَّد في الاختيار، وكن شجرة تُلقي على الناس بثمارها، وظلالها، وجمالها.. ولا تكن فأسًا يُقطِّعها قطعًا وهي صاحبة الفضل عليه؛ إذْ قبضتهُ من خشب.
05)_ إذا بلغكَ أنَّ أحدًا ما خاضَ فيكَ خوضًا لم ترضَهُ لنفسكَ، فلا تذهب إليه لتأديبه، ولكن الجأ إلى الله تعالى أوَّلًا، فهو من بيده أن ينصركَ، وهو من بيده أن يُنصفكَ: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} «الصافات: 99».
إذا ذهبتَ إلى الله لن تضلَّ أبدًا، الضَّلال أنْ تذهب إلى سواهُ.
كما لا يليقُ بكَ أن تحزن جرَّاء ما سمعته من سوء، فربَّما هو ابتلاء لكَ كيْ تصبر فتؤجَر، أو لكي تتداركَ أخطاءكَ فتُصلحها، فبعض الابتلاءات تمحيص.
ضف إلى ذلك:
كثيرًا ما ينشرُ الناس عنكَ افتراءات لا قِبَلَ لكَ بها، وكثيرًا ما تكون من نسج خيال حاسدٍ، وهذا ليس بالأمر العجب! لكن هنا نقطة مهمَّة يجب عليكَ إدراكها:
أنْ يقول الناس فيكَ ما ليسَ فيكَ، قد يكون أمرًا محمودًا في باطنه وإنْ كان مكروهًا في ظاهره، فلعلَّك عُدتَ إلى الصواب نتيجة تخطيئكَ، كما عرف موسى -عليه السلام- الخَضِر –رضي الله عنه- نتيجة نسيان الحوت، فلمَّا كانت البداية بالنسيان: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} «الكهف: 63»، أثمرتْ النهاية بعد ذلك بالإيجاد: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} «الكهف: 65».
فلولا نسيان الحوت، لما وجد سيِّدنا موسى سيِّدنا الخَضِر، رُبَّ نسيان كان فاتحة خيرٍ للإيجاد، ورُبَّ تخطيءٍ لكَ كان فاتحة خيرٍ للصواب.
06)_ لا تتفاجأ بإساءة من أحسنتَ إليه، ولو كان من ذوي القربى أو من ذوي المحبَّة، فنُكر الفضل ورَدُّ الإحسان بالإساءة من طبيعة الإنسان. قال تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} «العاديات: 06»؛ أي لجَحود.
فإنْ جحد المخلوق فضل خالقه عليه، كيف تنتظر منه أنْ يعترف بفضلكَ عليه، وأنت مخلوق من نفس طينته؟!
07)_ ليس بالضرورة أنْ تُعادي الناس حتَّى يُعادوكَ، هناك عداوات هي وليدة الحسد ليس إلَّا {حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم} «البقرة: 109». وليس بالضرورة أن تكون وليدة ردَّاتِ فعلٍ، بل قد تكون فعلًا مستقلًّا عنكَ، رغم أنكَ لم تفعل ما يستدعي عداوتهم لكَ!
وقد تأمَّلت في قصَّة يوسف -عليه السلام- فوجدتُ أنَّ سيِّدنا يوسف كان صغيرًا حَدَثًا، لم يبلغ بعدُ السنَّ الذي يُحسن فيه أو يسيءُ لإخوته، وإلى ذلكَ كادوا لهُ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} «يوسف:76».
وتأمَّلتُ في رَدِّ سيِّدنا يوسف فوجدتُه قاعدة اجتماعيَّة حقيق بنا السير خلفها؛ إذْ قال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} «يوسف:92».
{لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}: تعني بلغتنا العصريَّة: ليس لديَّ وقت لأدخل معكم في (السِّين والجيم).
وليس لديَّ نفسيَّة المنتقم الذي يتشوَّق لِاهْتِبال فرصة العقاب.
وأنَّ هناك قضايا أهمُّ من الردِّ على المسيئينَ، لعلَّ من ذلكَ الإحسان إلى غيرهم، أو ربَّما الإحسان إليهم هم أنفسُهم.
كلُّ وقتٍ تُمضيه في الردِّ على الإساءات لستَ بمأمون أنْ تكون مسيئًا مثلهم؛ فمن يسقط في الوحل يسقط الوحل عليه لا محالة.
ثمَّ لا تنسَ أنَّ طاقة المسيء مُعدية، فقد ينقلُ إليكَ من خبائث نفسهِ إلى طيِّبات نفسكَ، وكلُّ هذا نتيجة دخولكَ معه في عراكٍ أنتَ في غُنيةٍ عنه.
{يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ}: وهنا أحال سيِّدنا يوسف القضيَّة من يديه إلى مَن لا يُعجزه شيء، وحقيق بنا هنا التَّأسِّي به، فليست كلُّ أخطاء الناس تستحقُّ العقاب، بل حتَّى لو كانت تستحقُّ العقاب، من الجميل أحيانًا أنْ تقول لهم: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}.. فلا تسمح للذة الصفح أنْ تفوتكَ!
أيضًا: مِن الجميل منكَ أنْ تُشبِه سيِّدنا يوسف في اللاَّتثْريبيَّة هذه، مهما بلغتْ درجة الطرف الآخر من القرابة، ومهما كان الوجع الموجَّه إليكَ..
ومِن الجميل منكَ أنْ تقول للَّذين طرحوا يوسفكَ أرضًا، وجاؤوا الناسَ غيبةً يبكون ويسردون براءتهم وإثمكَ: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}. فحسبكَ أنكَ تنسخُ من يوسف عليه السلام صفحهُ الجميل، وينسخون من إخوته ما سَوَّلتْ به أنفسهم.
ثمَّ أقلعتْ سفينة تأمُّلي من قصَّة سيِّدنا يوسف إلى قصَّة سيِّدنا موسى والخَضِر.
فتأمَّلتُ قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا (فَأَبَوْا) أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ (فَأَقَامَهُ)} «الكهف: 76».
شدَّني في أوَّل الآية: {فَأَبَوْا}، ثم لم تلبثْ أن انتهت الآية ب {فَأَقَامَهُ}، إذا تعاملوا معكَ بأخلاق {فَأَبَوْا}، تعامل معهم بأخلاق {فَأَقَامَهُ}.
ارتفع عن أخلاق {أَهْلَ قَرْيَةٍ}، إلى أخلاق سيِّدنا الخَضِر {فَأَقَامَهُ}.
حتَّى لو أبوْا أنْ يُضيِّفوكَ، أقم الجدران المائلة، ولا تتخلَّى عن أخلاقكَ الخَضِرِيَّة، بسبب الأخلاق القَرْيَوِيَّة.. ومِن أخلاق سيِّدنا الخَضِر:
إقامة الجدران الَّتي تُوشكُ أنْ تنقضَّ.
وتَمْتينُ العلاقات الَّتي تكاد تنقطع.
وردُّ الصفعات بمدِّ يد العون.
وترك الأثر الجميل حيثُ تُقابَل بالفعل القبيح..
لتكن أخلاقكَ مع المسيئين مثل أخلاق سيِّدنا الخَضِر مع أهل القرية..
______
#محمد_خمفوسي