19 شعبان 1441 هـ
13 أفريل 2020 م

وجودك في هذه الحياة ليس عبثًا، إذْ هناك ملايين الناس ماتوا في بطون أمهاتهم، وآخرون ماتوا أثناء الولادة، وآخرون لم يعيشوا كثيرًا حتى باغتهم الموت فجأة!

إنها رحمة من الله تعالى أنْ تحملك أمك تسعة أشهر ببطنها، ثم تلدكَ، ثم تنمو طفلًا، ثم ها أنتَ شاب..
تحدَّيت الصعاب لتصل إلى شبابكَ، وقد وصلتَ إليه.. فهلَّا جِدًّا فإنَّ الأمر ليس بالهزل!

خذ حياتكَ على محمل الجِد، ولا تهزل في شؤونكَ، فإنَّ في أوقات هزلكَ هناك مَن يبني مجدهُ على حسابكَ.

لمَّا تعرف قيمة نفسكَ كإنسان، تترفَّع عن كلِّ البهيميات الأخلاقية والسلوكية لأنها لا تُمثِّلكَ، فتعمل جاهدًا ألَّا تستنزف التوافه طاقتكَ، ولا تسمح للسفاسف أنْ تنهبَ خيرات وقتكَ.

لمَّا تعرف قيمة نفسكَ تعرف أنَّ وجودك في هذه الحياة لم يكن بمجرد معاشرة زوجية بين والديك، بل لأنَّ الله تعالى أراد لكَ أن تُوجَد في هذا الوقت بالذات، وعلى هذا الدِّين بالذات.. إذْ ما أكثر ما تحدث المعاشرة ولا يحصل الولد
وما أكثر الذين وُلدوا في بيئة تكفر بوجود إله لهذا الكون، فضلًا عن تلك البيئات التي يُشرَك فيها الله تعالى بغيره من المخلوقات!

أنْ تُخلَق إنسانًا وفي الوقت نفسه تُخلق على فِطرة الإسلام فلا شكَّ أنَّ هذه نعمة ما بعدها نعمة، لكن السؤال ههنا:
_ ماذا قدَّمتَ للإنسانية والإسلام؟!

ربَّما لحدِّ الساعة ما زلتَ تشعر أنكَ لم تُقدِّم شيئًا يُذكر، رغم أنَّ كل الذين أفنوْا حياتهم فداءً للإسلام، ووقفوا أوقاتهم في سبيل خدمة المسلمين.. رحلوا من هذه الحياة وهم يشعرون أنهم لم يُقدِّموا شيئًا يستحق أنْ يُصنَّف في خانة (الإنجازات)! فكيف بنا نحن الذين لم نُقدِّم للآن شيئًا؟!

لم أكتب لكَ هذه الكلمات كي أُوجِسَ قلبكَ خيفةً، بل لكي أنبِّهكَ إلى قيمة نفسكَ عند الله تعالى:
فقد وُلدتَ إنسانًا ولم تولد بهيمة
ووُلدتَ مسلمًا ولم تُولد كافرًا
ووُلدتَ سليمًا ولم تُولد مشوَّهًا..

والله تعالى لمَّا وهبكَ الإنسانية والإسلام إنَّما وهبكَ إياهما دون أن تسأله، وكلاهما نعمة لا يستوفيها شُكر، ولا يبلغ فضلها سعي، لكن أيقن أنكَ ستُسأل يوم القيامة عن هاتين النعمتين، كيف استثمرتَ فيهما؟ ولوجه مَن فعلتَ ما فعلتَ؟!

يجب أن تُراجع نفسكَ كونكَ لستَ مخلوقًا عاديًّا، ولم ينفخ الله تعالى فيكَ مِن روحهِ لكي تُولد وتموت كمن دخل عُمَرًا وخرج عُمَرًا!

وعلى هذا حقيق بكَ أنْ تستدركَ الآن قيمتكَ عند الله تعالى، وأنَّ هذا الفضل الذي أُوليته ليس لسوادِ عينيكَ، ولا لمقربتكَ عند الله تعالى، وإنما لمهمَّة خُلقتَ لها، يجب أنْ تُؤدِّيها قبل أنْ ترجع روحكَ لباريها!

استدرك ما فاتكَ
وافتح صفحة جديدة مع نفسكَ، قبل أنْ يبدأ جسمكَ بخذلانكَ، بعد أنْ تشيخ بك السنين، ويرسم الزمان خرائطه على جسدكَ، فلا تقوى قدماك على حملك لبيت الخلاء كي تقضي حاجتكَ بنفسكَ! (نعوذ بالله من القلة بعد الكثرة، ومن الذلة بعد العزة، ومن الضعف بعد القوة، ومن العجز بعد القدرة).

كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يُعَوِّل على الشباب؛ لأنَّ طاقة الإنسان في شبيبته تكون في أَوْجِها، ويُقدِّرها الكثير من الخبراء بدءًا من سن الثامنة عشر إلى غاية الأربعين سَنة!

في اثنين وعشرين سنة هذه يستطيع الإنسان إنجاز ما لا يستطيع إنجازه في غيره من السنوات، لأنَّ هذه السنوات تكون حُبْلَى بالطاقة والفرص.. على خلاف السنوات الأخريات، فهي بين عُقمها أو ضَعفها!

لذلك حقيق بالإنسان أنْ يُقلِّل من أوقات نومه، وأكله، ولهوه، وفراغه.. في هذه المرحلة خصوصًا
وأنْ يعمل بجُهد
ويُكثِّف من مهامه كي يُنجز بالضِّعف، فإنَّ الضِّعف الذي يقدر عليه في أوقات القوة يتعذَّر عليه في أوقات الضَّعف!

ولمَّا أنصحكَ بتقليل الرغائب، والتركيز أكثر على المهمَّات.. فهذا لا يعني أنَّني أدعوكَ للعزوف الكلي عن فضائل الأمور، ولكن كن عوَانًا بين ذلك.. مَرنًا مثل الدائرة، مستقيمًا مثل المربَّع.. واعرف من أين تُؤكل الكتف!

حياتكَ مضبوطة على عدد معين من العُمُر، فاغتنم كلَّ دقيقة فيها لدقائق الأمور ونفائسها، ولا تعشها سبهللًا، كأن الـموت خُلق لغيركَ.

وأنتَ تمسك هاتفكَ بين يديك، تتجول من موقع إلى موقع، ومن حساب إلى حساب.. لا تنسَ نفسكَ معه، وكنْ أنتَ مِن يُمسك هاتفكَ لا هو مَن يُمسككَ!

وأنتَ على اتصال بأحدهم، أو هو على اتصال بكَ.. لا تُمدِّد مكالمة هاتفية تحتاج منك دقيقتين إلى عشرين دقيقة، فإنَّ من يمنح وقته بالمجان لا يُحسب له قيمة، ناهيك عن طاقتك في الكلام، وهذه كثيرًا ما يغفل عنها الناس، حديثكَ طاقة تستنزفها منكَ، فقُل ولا تُطِل!

وأنتَ تُناقش شخصًا في موضوع ما، لا تطل النَّفَس معه إذا أيقنتَ أنكَ لا أنتَ منه تنتفع، ولا هو بما عندكَ يقتنع، لاسيَّما أولئك الذين يفهمون ما لا تقصد، ويؤوِّلون ما لا تعني، فكفَّ عن فتح أزرار النقاش معهم، ذلك أنَّه من عادة العقول الضيقة أن تُقزم الـمعانـي، فتسمع كلامًا كثيرًا تلخصه فـي معنى غير مقصود! وهؤلاء متعبون للغاية..

ومن ثمرات معرفتكَ لقيمة نفسكَ أنْ تعرفَ قيمة وقتكَ، والوقت نفيس، فلا تُهدره في خسيس!
كأنْ تمضيه في مراقبة حياة الناس:
_ فلان على علاقة بفلانة
_ فلانة خرجت مع فلان..

فوالله كلُّ ما لا يعنيك إذا أشغلتَ نفسكَ به يُعييكَ، واترك الناس لربِّ الناس
واسأل الله العافية
فما سقط فيه غيركَ لا يدلُّ على شيطانيتهم ولا على ملائكيتكَ، إنَّما هو لفضل الله تعالى عليكَ، لا حول لك ولا قوة فيه!

واعرف شرف الأمكنة والأزمنة، فليست مدينكَ ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء
وليس يوم الثلاثاء يُضاهي يوم الجمعة في الفضل..
إذْ هناك ساعة واحدة أفضل من يوم بأكمله، وهناك مكان صغير أفضل من الأرض بوسعها!

ورحم الله امرءًا عرفَ قيمة نفسه، فعمل على وقف نفسه لله تعالى، فلا يقرب ما نُهيَ عنه، ولا يُفرِّط فيما أُمر به..

وحُقَّ لمن عرفَ قيمة نفسه أنْ يعرفَ قيمة ما حوله، ومن عرف قدر الأشياء استثمر فيها فعادت عليه بالنفع!

___
#محمد_خمفوسي