حيدر حسين سويري
أرسلت لي إحدى دور النشر، في دولة تونس، طلباً بأن أُتم بحثي في موضوع (نشأة الكون بين التسليم والإلحاد)، لكني إعتذرت منهم لكثرة مشاغلي، كذلك وعدتهم والقراء الكرام بأني سأستمر بين الفينة والأخرى، بكتابة مقالات حول الموضوع، كلما سنحت لي الفرصة، لذا فأنا أعود اليوم بمقال ثالث حول نفس الموضوع، فلعل الله يُحدثُ بعد ذلك أمراً، وأتفرغ لإتمام البحث، لتعم الفائدة أكثر...
الإلحاد في اللغة هو الميل والإنكار، ويأتي الفعل (ألحد) وبعده أحد حروف الجر مثل (عن، بـ، في، إلى) ولا يختلف معناه كثيراً، مثلاً: ألحد السهمُ عن الهدف؛ ولمن شاء الرجوع إلى قواميس اللغة، للتعمق في الموضوع.
وجدتُ أن القرآن أورد كلمة (يلحدون) ثلاث مرات:
(وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف: 180])
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [النحل: 103])
(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت: 40])
نرى أن الآيات الثلاثة قصدت الميل والإنحراف في إتجاه آخر، غير الأتجاه المعين، وهذا يدلُ على أن معنى الإلحاد هو الإنكار، ولكن مَنْ يُنكرُ شيئاً عليهِ الأتيان بآخر، فالذين يُنكرون الله لم يأتوا بشئ وهؤلاء لا شأن لنا بهم، لأنهم عبارة عن مرضى نفسيين، وأما مَنْ جائوا ببديل فسنناقشهم فيهِ في نقاط:
الطبيعة: وقد ثبت فيزياوياً أن الطبيعة تتحرك نحو الزوال، وكيمياوياً أنها متحولة ومتحللة ولا تتسم في الثبات الجزيئي، ووفق هذه النظريات تعامل الإنسان مع الطبيعة على أنها ندٌّ وخصم، وعمل على تسخيرها، وتقدم في ذلك شوطاً طويلاً، فأصبحت عبداً لهُ وهو سيدها، فعن أية طبيعة تتكلمون؟!
العلم: العلم متطور بل أصبح سريع التطور، ومن صفاتهِ التناقض والإختلاف، فبدأ بالفلسفة وكانت أقساماً شتى، ثُمَّ ظهرت الرياضيات وهي بدورها تحولت إلى عدة أقسام، وكذلك الطب وغيره من العلوم، لقد تعامل معهُ الإنسان كما تعامل مع الطبيعة، بل أصلاً العلم هو نتاج عقل وفكر الإنسان، فإذا جاز لكم عبادة أحدٍ غير الله فأعبدوا أنفسكم، فإن كنتم جاهلون فأعبدوا العلماء كما عبد بعض البشر عزيراً وعيسى وعلياً!
الأخلاق: هذه من الأمور المختلف فيها كثيراً، فالفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) يقيمها بما تدرهُ عليهِ من أرباح وفوائد، وهكذا تعامل مَنْ آمن بنظريتهِ، كذلك للمنافقين نظرية في الأخلاق (للاطلاع على رأينا في الأخلاق الرجوع إلى كتابنا "ماهو الدين؟!")
الضمير: ويكفي في هذا ما قالهُ عنهُ ماركس: الضمير أكذوبةٌ ضحك بها الأغنياء على الفقراء. وأقول: ويصح العكس أيضاً، فكثير من الفقراء يستجدون عطف الأغنياء تحت هذا العنوان. ووفق العلم المادي، لنا أن نسأل: ما ماهيتهُ؟ وأي عضوٍ يُشرف عليهِ؟ وهل هو واحدٌ عند جميع البشر؟ وهل هو مع الخيرين أم مع الأشرار؟ مع الأغنياء أم مع الفقراء؟ ... وغيرها من الأسئلة، يتضح لنا أن الضمير شئ لا وجود لهُ بل هو مفهوم عام ضحك بهِ الأغنياء على الفقراء كما قال ماركس.
الإنسان وعقلهُ: إنَّ مَنْ سار في طريق النقاط الأربعة الأولى، وأكتشف حقيقتها لا بُدَّ أن يصل للخامسة، ولكن هذه الأخرى تتعدد بتتعدد البشر منذ أولهم إلى آخرهم، وهذا التعدد يجبرنا أن نتخذ أحد طريقين لا ثالث لهما:
أن تختار شخصاً كاملاً فتعبدهُ (بمعنى إتباعه في كل شيء)، كما فعل بعضهم بعبادة الأنبياء أو الحكماء أو الفراعنة والملوك وغيرهم، والسؤال: هذا الشخص سيموت يوماً ما، فماذا ستفعل في الحوادث التي تأتي بعده؟!
أن تؤمن بنفسك وعقلك، ولكن ألا ترى أنك محتاج مفتقر، لا تستطيع دفع الأذى عن نفسك وعمن حولك؟! وإنَّ جادلت وقلت: أفعل. فأدفع الموت عن نفسك.
نصل الآن الى القول وبكل صراحة:
لابُدَّ من التسليم بوجود قوة عاقلة خالقة تدير هذا الكون.
سأعود في مقال اخر ان شاء الله