في العادة يُحسن الإنسان إلى غيره من منطلق المعرفة والقرب، لكنه نادرًا ما يُحسن إلى المجهولين والأباعد، حتى الآن يبدو الأمر منطقيًّا لا استغراب فيه، وعاديٌّ لا شذوذ عليه.

لكن بعد مرور الوقت وكثرة الاحتكاك بهؤلاء المعروفين والأقارب يحدث أنْ يَتَعَقْرَبَ منهم، ويذوق بعض سمومهم التي كانت مخفية داخل صنارتهم، ولكلِّ إنسان صنَّارة، ولكن السموم تختلف من شخص إلى آخر!

هل حدثَ حتى الآن أن عرفتَ شخصًا فخالطته ووَاكَلْتَهُ وسافرتَ معه ولم ترَ منه ما يؤذيك؟!

هل حدثَ أنْ أحسنتَ إلى أحد أكثر من مرَّة، ولم يسقكَ من سمومه جرعةً؟!

أغلب الظن أنكَ ملدوغ ممَّن وثقتَ بهم، بل ربَّما ما لُدغتَ إلَّا لأنكَ وثقتَ فعلًا، والثقة في الآخرين شكل مِن أشكال الإحسان إليهم، وإلَّا فإنَّ الأصل أنْ نحذرهم حتى لا نُصاب من جهتهم!

ولكن كيفَ تحذر من إنسان تثق به، وتُسِرُّه بأسراركَ، وتُعايشهُ تفاصيل حياتكَ؟! سؤال يَنِمُّ عن ذكاء حكومي خالص!
والجواب عنه ضروريٌّ كضرورة الحجر الصحي لمن وُجد ببلدة مطعونة!

.. خذها مني قاعدة، وانهض إلى تطبيقها دون تقاعد:
كل الإحسان الذي تقدِّمه إلى الآخرين إذا قدَّمته ولم تستحضر بين عينيكَ [اتَّقِ شرَّ مَن أحسنتَ إليه]، فالأحرى أنكَ قابل لفعل الشرِّ بكَ!

وعليه: فأنتَ لستَ مضطرًّا للإحسان إلى الجميع، ولا مضطرًّا للإحسان لمن تعرفهم ويقربونكَ، ولستَ مضطرًّا لأنْ تنزع جلد الحذر وترتدي مكانه جِلد الثقة العمياء تحت ذريعة أنكَ [محسِن]! فإحسان بلا حذر خطر على وشكٍ:

أسأتُ إذا أحسنتُ ظني بكم
والحزم سوءُ الظن بالناس!

إذن كيف تتَّقي شرَّ مَن أحسنتَ إليه؟!
_ لستَ مضطرًّا لأن تَظهر في الواجهة.

_ وأنتَ تقدِّم يد العون، احذر من اليد التي تُمسكُ عونكَ أنْ تقطع يدكَ.

_ وُجد الخفاء لا لأجل إخفاء حسناتكَ، ولا لأجل الحيطة من الرياء فقط.. أيضًا لأجل ألَّا تُحسدَ على هذه اليد العُليا التي فضَّلها الله تعالى بها عن الكثير مِن الأيادي السافلة!

أوتعتقد أنَّ أمر هذا العلوُّ عاديٌّ لا يرقَى لأنْ تُحسَد عليه؟!

أوتحسبُ أنَّ مَن أحسنتَ إليه من طينة الصحابة، تتفضَّل عليه فيشكرك ويذكرك بخير ما ظلَّ في عمره من رمق.. فلا قلبه يتلظَّى بنار الغيرة، ولا نفسه تتحرَّك بالوساوس؟!
خسرتَ وربِّ الكعبة إنْ كان هذا ظنُّك بنفسكَ وغيركَ!

وأنت تُلامسُ مشاعر الآخرين، كن على حذرٍ، كما لو كنتَ تمشي على حقلِ ألغامٍ!

وأنتَ تُحسن إليهم اتَّقِ الشرَّ منهم، فإنَّ الشرَّ في قلوب الناس قنبلة موقوتة، لا يدري أحد على مَن تنفجر، ولا كيف تنفجر! فاحذر أنْ تكون أنتَ، احذر حتى لو جئتهم في ثوبِ الخَيِّر!

كم مِن محسن أحسن للناس فاتَّهموه بنعوت عديدة، فأضحى متعبًا من جراء إحسانه، ففي زماننا هذا عليكَ أنْ تخافَ مِن النار، حتَّى لو لمْ يكنْ هناكَ تِبْنٌ في بطنكَ، وإنِّي على ما أقول مِن المُجَرِّبين!

وكم مِن محسن آخر أحسن دون أنْ يعلم به أحد فعاش هانئَ الحال، مرتاح البال.. لا هو يُعلَم بإحسانه فيُعادَى، ولا هم يعلمون عن إحسانه فيَكْتُمونه الشرَّ، وبعض الشر عند الناس مصدره الخير الذي تقدِّمه لهم.. فاتَّقِ!

هذه ليست دعوى لإساءة الظن بالناس الذين تتفضَّل عليهم ممَّا أفاء الله تعالى عليكَ، كلَّا.. بل لأخذ الحيطة منهم فقط وأنتَ تتفضَّل عليهم!

حليب القول ولبنه وزبدته:
إذا استطعتَ: أحسن إلى الناس، واستغنِ عنهم! واحرص على إخفاء نفسكَ عنهم بقدر حاجة المحتاج إلى مَن يُعينه، وحسبكَ مِن كل الإحسان الذي تُقدِّمه أنَّ الله تعالى به خبير، وإذا كان الله خبيرًا بما تفعل وتقول فما ضرَّكَ أنْ يجهل الناس مَن تكون! {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنين} [التوبة: 120].

____
#محمد_خمفوسي
12 أفريل 2020 م
18 شعبان 1441 هـ